للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"وكنت أنا كثيرَ الملازمة للذهبيّ، أمضي إليه في كل يومٍ مرتين، بكرةً والعصرَ، وأما المِزِّيُّ فما كنت أمضي إليه غيرَ مرتين في الأسبوع، وكان سببَ ذلك أن الذهبيَّ كان كثير الملاطفة لي، والمحبةِ فِيَّ، بحيث يَعْرف مَنْ عرف حالي معه أنه لم يكن يحبُّ أحدًا كمحبته فيَّ، وكنتُ أنا شابًّا، فيقع ذلك مني موقعًا عظيمًا. وأما المزي فكان رجلًا عَبُوسًا مَهِيبًا.

وكان الوالد يحب لو كان أمري على العكس، أعني يحبُّ أن ألازم المِزِّيَّ أكثرَ من ملازمة الذهبي؛ لعظمة المزي عنده.

وكنت إذا جئتُ غالبًا من عند شيخٍ - يقول: هاتِ ما استفدتَ، ما قرأتَ، ما سمعتَ. فأحكي له مجلسي معه، فكنتُ إذا جئتُ من عند الذهبي يقول: جئتَ من عند شيخِك. وإذا جئتُ من عند الشيخ نجم الدين القَحْفَازِيّ يقول: جئتَ مِنْ جامع تِنْكُز؛ لأن الشيخ نجم الدين كان يَشْغَلُنا فيه. وإذا جئتُ من عند الشيخ شمس الدين ابن النقيب يقول: جئتَ من الشاميَّة؛ لأني كنتُ أقرأ عليه فيها. وإذا جئتُ من عند الشيخ أبي العباس الأنْدَرَشِيّ (١) يقول: جئتَ من الجامع؛ لأني كنت أقرأ عليه فيه، وهكذا. وأما إذا جئتُ من عند المِزِّيِّ فيقول: جئتَ من عند الشَّيخ، ويُفْصِح بلفظ الشيخ، ويرفع بها صوتَه. وأنا جازمٌ بأنه إنما كان يفعل ذلك ليُثَبِّت في قلبي


(١) هو أبو العباس أحمد بن سعد بن عبد الله العسكريّ الأنْدَرَشِيّ الصوفيّ. شيخ العربية بدمشق في زمانه، مشارك في الفضائل، وكان منجمعًا عن الناس اختصر تهذيب الكمال، وشرع في تفسير كبير. مولده بعد التسعين وستمائة، وتوفي سنة ٧٥٠ هـ. انظر: الدرر ١/ ١٣٥، شذرات ٦/ ١٦٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>