والثاني: بناءُ ذلك على أن كل مجتهدٍ مصيب - غير سديد؛ فإن ذلك النص الذي يطلع عليه المجتهد بعد ذلك لا بد وأن يكون كان موجودًا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ضرورةَ أن النصوص لا تُنْشأ بعده، ولكنه كان قد خفي عليه. فإذا بان له يتبيَّن إذ ذاك أن حكم القياس مرتفعٌ مِنْ أصله، وليس هو من النسخ في شيء لا في اللفظ ولا في المعنى، سواء قيل: كل مجتهد مصيب، أم لم يُقل بذلك (١).
(١) يعني: فلا علاقة لنسخ القياس بعد وفاة النبي- صلى الله عليه وسلم - بالقول بأن كل مجتهد مصيب. وهذا الاعتراض فيه نظر عندي؛ إذ من الظاهر أن كلام الإمام - رحمه الله تعالى - إنما يقصد به أن الحكم يرتفع عن المجتهد بخصوص نفسه، لا بالنظر إلى غيره من المجتهدين ممن علم بالنص فإن حكم القياس مرتفع عنهم، لكن المجتهد مأمورٌ باتباع اجتهاده شرعًا، فلما تبين له نص مخالف لقياسه - تغيَّر حكم الشرع في حقِّه، فأصبح الحكم الأول في حقه منسوخًا، وهذا لا ينافي كون الحكم مرتفعًا في حق غيره أصلًا؛ لأن هذا الرفع الطارئ إنما هو بالنظر إلى خصوص حكم المجتهد. وأما بناء الإمام للنسخ بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم على القول بأن كل مجتهد مصيب - فإنما هو بناءً على أنَّ من يقول بهذا القول يَعُدُّ أن المجتهد متعبَّد بقياسه الأول، مأمور به في الواقع ونفس الأمر، فقياسه بناءً على ذلك صحيح قطعًا، فتحوله مِنْ حكم هذا القياس إلى حكم النص المخالف للقياس إنما هو من قبيل التحول مِنَ المنسوخ إلى الناسخ. وإنما لم يُسم هذا التحول في حق المجتهد نسخًا لأن شرط النسخ الاصطلاحي غير متوفر، وهو وجود التعارض؛ لأن القياس لا يعارِض النص، بل يَبْطل به، فلما كان رفع حكم القياس لا عن تعارض - لم يكن نسخًا اصطلاحيًا، وإن كان رفعًا لغويًا. وهذا بخلاف مَنْ يقول: بأنَّ المصيب واحد، فإنه لا يعد المخطئ متعبَّدًا بقياسه في الواقع ونفس الأمر، وإن كان معذورًا في فعله، ومأجورًا في اجتهاده. فقياسه بناءً على هذا القول خطأ، وتحوله عنه تحول من خطأ إلى صواب، فليس هناك رفع للحكم بالنظر إلى الواقع ونفس الأمر، بخلاف مَنْ يقول بتصويب كل مجتهد، فهو مصيب في الواقع ونفس الأمر في كلا الحكمين.