صورة أخرى: قلت لبعض إخواني: الزم الأدب وفارق الهوى والغضب، أو أمسك عليك لسانك، وابك على خطيئتك، وانظر لحالك، وردد ما ذكرته لك على أمثالك.
وقد كنت سمعت منه قيلاً وقالاً، وجرحاً وثلباً، وهمزاً ولمزاً في أناس ما سمعنا عنهم إلا خيراً، وهم من أهل الفضل، فما رأيناهم إلا يعملون الخير ويدعون له، ويسعون للبر وينهون عن الإثم، فما استجاب لي وما سمع مني، فرأيت أن ألزم الصمت معهم، وفيهم ولهم وعليهم، فأقبلت على واجباتي أيما إقبال، وأرحت قلبي من الأحقاد والأغلال، وذهني من الهواجس والأفكار.
ثم جاء بعض الفضلاء وقال: يقولون فيك كيت وكيت! فيعلم الله ما التفت إليهم ولا تأذيت، وقلت لهم: رب كلام جوابه السكوت، ورب سكوت أبلغ من كلام، وعلمتني الحياة أن الصفح الجميل من أحسن الشيم.
قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم إن الجواب لباب الشر مفتاح
الصمت عن جاهل أو أحمق شرف أيضاً وفيه لصون العرض إصلاح
أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة والكلب يُخسأ لعمري وهو نباح
ونقل الإمام الشاطبي عن أبي حامد الغزالي رحمة الله عليهما كلاماً متيناً يغفل عنه بعض الناس، فقال:(أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جهلة أهل الحق، أظهروا الحق في معرض التحدي والإذلال، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها) انتهى كلامه رحمه الله من كتاب الاعتصام للشاطبي.