ثامناً: أن التوحيد هو الذي يحرر النفوس من رق المخلوقين، ومن التعلق بهم وخوفهم ورجائهم، والعمل لأجلهم، وهذا والله هو العز الحقيقي والشرف العالي، فيكون بذلك متألهاً متعبداً لله، فلا يرجو سواه، ولا يخشى غيره، ولا ينيب إلا إليه، ولا يتوكل إلا عليه، وبذلك يتم فلاحه، ويتحقق نجاحه، فإن العبودية لله عزٌ ورفعة، والعبودية لغير الله ذلٌ ومهانة.
فيا عجباً! ممن يخاف من المخلوقين كالسحرة والمشعوذين وغيرهم ويحسب لهم حساباً، فيطلب من عطائهم، ويلجأ إليهم، ويخاف منعهم، وقد شرع له أن يردد بعد كل صلاة: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، فأين حقيقة التوحيد؟ وأين حقيقة هذه الكلمة؟ يرددها كثير من المسلمين بعد كل صلاة، لكن ربما بدون تدبر لمعناها، ولا عمل بمقتضاها، واسمع لهذا الكلام الجميل لـ شيخ الإسلام رحمه الله يقول: المشرك يخاف المخلوقين ويرجوهم، فيحصل له رعب كما قال تعالى:{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً}[آل عمران:١٥١] أما الخالص من الشرك فيحصل له الأمن كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}[الأنعام:٨٢] وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم هنا بالشرك كما في الحديث.
وأذكر لكم مثلاً واحداً لعزة المسلمين يوم أن تعلقوا بالله ولم يخافوا إلا الله، ذكر جليب بن حبة قال:[ندب عمر واستعمل علينا النعمان بن مقرن حتى إذا كنا بأرض العدو خرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفاً، فقام ترجمانٌ فقال: ليكلمني رجل منكم، وفي رواية للطبري: أن كسرى قال له: إنكم معشر العرب أشد الناس جوعاً، وأبعد الناس من كل خير، وما منعني أن آمر هؤلاء الأساورة أن ينتظموكم بالنشاب -أي: يقتلوكم- إلا تنجساً لجيفكم، فقال المغيرة رضي الله تعالى عنه: ما أخطأت شيئاً من حقنا، نحن أناس من العرب كنا في شقاء وبلاءٍ شديد، نمص الجلد والنوى من الجوع، ونلبس الوبر والشعر، ونعبد الشجر والحجر، فبينا نحن كذلك إذ بعث رب السماوات ورب الأرضين تعالى ذكره وجلت عظمته إلينا نبياً من أنفسنا نعرف أباه وأمه، فأمرنا نبينا ورسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة في نعيمٍ لم ير مثلها قط، ومن بقي منا ملك رقابكم] .
هكذا يكون التوحيد الخالص عزة ورفعة وثقة بالله، وقوة في الدين والعقيدة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه من عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه من محبته لغيره، ليس عند القلب أحلى ولا ألذ، ولا أطيب ولا ألين، ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله، ومحبته له وإخلاص الدين له.