[الكلمة السابعة عشرة: يا طالب العلم! إياك والحسد]
يا طالب العلم! إياك والحسد؛ فإنه اعتراض على قدر الله.
ألم تسمع لقول الله عز وجل: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:٥٤] ؟ والحسد إحراق للنفس وتعطيل لها، فلا هم لها إلا تتبع الزلات، وتصيد العيوب، والاشتغال بالمحسود، وقد يتعدى إلى أذى المحسود والكيد له، وهذا من أشنع الظلم الذي نهى الله عنه.
أخرج الحاكم وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيصيب أمتي داء الأمم، قالوا: يا نبي الله! وما داء الأمم؟ قال: الأشر والبطر، والتكاثر والتنافس في الدنيا، والتباغض والتحاسد، حتى يكون البغي ثم الهرج) صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وجوّد إسناده الحافظ العراقي كما في تخريج الإحياء.
قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: وقد يبتلى بعض المنتسبين إلى العلم وغيرهم بنوع من الحسد لمن هداه الله لعلم نافع أو عمل صالح، وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم.
واسمع لهذا الكلام الجميل النفيس: قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى: ومن أهم ما يتعين على أهل العلم معلمين أو متعلمين، السعي في جمع كلمتهم وتأليف القلوب على ذلك، وحسم أسباب الشر والعداوة والبغضاء بينهم، وأن يجعلوا هذا الأمر نصب أعينهم يسعون له بكل طريق؛ لأن المطلوب واحد، والقصد واحد، والمصلحة مشتركة، فيحققون هذا الأمر بمحبة كل من كان من أهل العلم، ومن له قدم فيه واشتغال أو نصح، ولا يدعون الأغراض الضارة تملكهم وتمنعهم من هذا المقصود الجليل، فيحب بعضهم بعضاً، ويذب بعضهم عن بعض، ويبذلون النصيحة لمن رأوه منحرفاً عن الآخر، ويبرهنون على أن النزاع في الأمور الجزئية التي تدعوا إلى ضد المحبة والائتلاف لا تقدم على الأمور الكلية التي فيها جمع الكلمة، ولا يدعون أعداء العلم من العوام وغيرهم يتمكنون من إفساد ذات بينهم وتفريق كلمتهم، فإن في تحقيق هذا المقصد الجليل والقيام به من المنافع ما لا يعد ولا يحصى، ولو لم يكن فيه إلا أن هذا هو الدين الذي حث عليه الشارع بكل طريق لكفى إلى أن قال رحمه الله: وإذا كان كل طائفة منهم منزوية عن الأخرى منحرفة عنها، انقطعت الفائدة وحلّ محلها ضدها من حصول البغضاء والتعصب والتفتيش من كل منهما عن عيوب الطائفة الأخرى وأغلاطها، والتوسل به للقدح، وكل هذا مناف للدين والعقل ولما عليه السلف الصالح، حيث يظنه الجاهل من الدين إلى آخر كلامه النفيس الجميل هناك في الفتاوى السعدية.
اسمع لهذه الكلمة العجيبة؛ حيث يقول الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم شراً فتح عليهم الجدل ومنعهم العمل.
وقال ابن يحيى الوشاء في كتابه الظرف والظرفاء: على أنه لا بد للحاسد وإن لم يجد سبيلاً إلى وهن ولا سبباً إلى طعن أن يحتال لذلك بحسب ما ركب عليه طبعه وتضمنه صدره، حتى يخلص إلى غفلة أو يصل إلى زلة، فيتشبث بالمعنى الحقير، ويتسبب بالحرف الصغير إلى ذكر المثالب وتغطية المناقب، إذ من طبع أهل الحسد وأرباب المعاندة والنكد تغطية محاسن من حسدوه، وإظهار مساوئ من عاندوه، ثم ذكر هذه الأبيات:
عين الحسود عليك الدهر حارسة تبدي المساوئ والإحسان تخفيه
يلقاك بالبشر يبديه مكاشرة والقلب مضطغن فيه الذي فيه
إن الحسود بلا جرم عداوته فليس يقبل عذراً في تجنيه
فيا طالب العلم! الله الله فتوحيد الصف ووضع الكف بالكف، وإياك إياك والحسد فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وإن وجدت شيئاً منه في نفسك فاستعذ بالله منه، وجاهد نفسك واستعن بالله، وادع للمحسود أن يبارك الله له فيما آتاه، واطلب الله أن يزيدك ويزيده من فضله فإنه هو الرزاق ذو القوة المتين، وتذكر أن (من دعا لأخيه بظهر الغيب قال له الملك الموكل به: ولك مثله) كما في صحيح مسلم.
نعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن شر حاسد إذا حسد.