[التتار والعالم الإسلامي]
صفحة ثالثة وأخيرة من صفحات التاريخ التي تبرهن على أنه مهما كان حال المسلمين إلا أن العزة والتمكين سيكون نصر للمؤمنين.
وهذه الصفحة هي لما خرب المغول والتتار العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، ونهبوا الأموال، وداسوا القيم، وفتكوا في الأنفس والأعراض فتكاً ذريعاً حتى قيل: إن جبالاً شامخة وأهرامات عالية أقامها هولاكو من جماجم المسلمين.
واسمع لـ ابن الأثير وهو يروي لنا الخطب والحدث في كتابه الكامل في الجزء التاسع يقول: ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة، ذكر خروج التتر إلى بلاد الإسلام، لقد بقيت عدة سنين -هذا كلام ابن الأثير - معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجْلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟! ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟! فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها، وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: هذا الفعل يتضمن الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.
إلى أن وصف هذا الحدث، وهذا الخطب، بصفات عجيبة غريبة، من أراد أن يرجع إليها فليرجع إليها هناك، إلى أن قال: وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة -كأنه يسوق لنا ما يدور الآن في العالم الإسلامي- فإنا لله وإنا إليه راجعون! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! لهذه الحادثة التي استطار شرها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح، فإن قوماً خرجوا من أطراف الصين وقصدوا بلاد تركستان مثل كاشور وبلد سوغون، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند وبخارى وغيرهما، فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكاً وتخريباً وقتلاً ونهباً، ثم يتجاوزونها إلى الري وهمذان وبلد الجبل، وما فيه من البلاد إلى حد العراق ثم بلاد أذربيجان وأرانية، ويخربونها ويقتلون أكثر أهلها، ولم ينج إلا الشريد النادر، كل هذا في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع بمثله.
إلى أن قال أيضاً: ففعلوا فيها -أي في بلاد الهند وسجستان وكرمان وغيرها، ففعلوا فيها مثل ما فعل هؤلاء أو أشد ما لم يطرق الأسماع مثله، فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون أنه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة، إنما ملكها في نحو عشرين سنة، ولم يقتل أحداً إنما رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمورة في الأرض وأحسنه وأكثره عمارة وأهلاً وأعدل أهل الأرض أخلاقاً وسيرة في نحو سنة -شاهد إذا سلط الله عز وجل الأعداء والعياذ بالله- ولم يبت أحد من البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعهم، ويترقب وصولهم إليه، ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم، فإنهم معهم الأغنام والبقر والخيل وغير ذلك.
إلى أن قال: ولقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم منها.
ثم قال في آخر الأمر: فإنا لله وإنا إليه راجعون، نسأل الله أن ييسر للإسلام والمسلمين نصراً من عنده، فإن الناصر والمعين والذاب عن الإسلام معدوم، وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال.
أقول: نحن نسمع هذا الوصف من ابن الأثير رحمه الله تعالى نتعجب ونفرغ أفواهنا اندهاشاً ونحن نسمع مثل هذه الكلمات، فنقول: من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة بعد هذه الأحداث التي وصفها ابن الأثير رحمه الله تعالى!! كل هذه الصفحات والتاريخ مليء بمثل ذلك وغيرها من مواقف الشدة والمحن التي أصابت المسلمين.
أقول: كل هذه بشارات وبشائر تدل على أن ما يحدث للمسلمين اليوم من ضيق وشدة ومحن أن بعدها فرج، وأن بعدها نصر، لكن المهم أن ننصر نحن دين الله، أن نقوم بواجبنا كما سأبين بعد قليل.
أقول: مفهوم خاطئ يجب ألا يفهم: من كان يظن أننا نقصد بالتفاؤل إذا طلبنا التفاؤل مجرد الفرح والاطمئنان، وبالتالي الركون ودنو الهمة ووهن العزائم والانشغال في الدنيا والتغني بهذا التفاؤل ليل نهار، وذكر مثل هذه البشائر، وأعداء الإسلام يخططون ويعملون ويكيدون فهو مخطئ، أو من كان يظن أننا نقصد بذلك مجرد السرور والاطمئنان المؤدي للثقة المفرطة، والحماس المؤدي بدوره إلى التهور والانفعال اللذان يؤديان إلى عاقبة غير مرضية، ونتائج محرجة فهو مخطئ أيضاً، إنما نقصد بالتفاؤل: الثقة بنصر الله والفوز والنجاح، وعدم تأثر المسلمين جميعاً بما يوضع لهم من عراقيل، بل إن ذلك يزيدهم طموحاً وتفاؤلاً لأنهم واثقون بنصر الله، الثقة واليقين بنصر الله هذا هو ما نقصده بالتفاؤل، والأمل بنصر الله وتأييده لجنده، هو سبيل الراشدين والفائزين بالنصر {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ} [الصافات:١٧٣] فالمؤمنون وحدهم هم المتفائلون، وغيرهم هم اليائسون.
فاسلك أخي المسلم رعاك الله طريق المؤمنين العاملين المتفائلين، فالفوز حليفك إن شاء الله، وتذكر قول الحق عز وجل: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:٢٢] .