وداعاً رمضان
وهذه صورة مودع -أيها الأحبة- وهو يودع رمضان في آخر ليلة من رمضان، كأني بمودع مفجوع وهو يراقب بعينيه رحيل الحبيب، وقد تلاشى خياله من بعيد، يصرخ فيقول: شهر رمضان، وأين هو شهر رمضان؟ ألم يكن منذ أيام بين أيدينا؟ ألم يكن ملء أسماعنا وملء أبصارنا؟ ألم يكن هو حديث منابرنا؟ ألم يكن هو زينة منائرنا؟ ألم يكن هو بضاعة أسواقنا، ومادة موائدنا، وحياة مساجدنا؟ فأين هو الآن؟ ارتحل وخلفنا، كسيرة أنفسنا، دامعة أعيننا، ثم أخذ ينوح فيقول: أيا شهرنا الكريم! وموسم خيرنا الوسيم، أيا شهر المكرمات! انجابت فيك الظلمات وتضاعفت فيك الحسنات، وفتحت أبواب السماوات، فآه ثم آه على الفراق، أيا شهرنا الذي هيم نفوسنا، وخرق قلوبنا، وأدمع عيوننا، ثم أجهش بالبكاء وفاضت عيناه بالدموع.
فقلت: سبحان الله! لكل محب حبيبٌ، ورمضان حبيب الصالحين.
تذكرت أياماً مضت ولياليا خلت فجرت من ذكرهن دموع
ألا هل لها يوم من الدهر عودة وهل لي إلى يوم الوصال رجوع
وهل بعد إعراض الحبيب تواصل وهل لبدور قد أفلن طلوع؟
أيها المسلمون! بعد رحيل شهركم أكثروا من الاستغفار فإنه ختام الأعمال الصالحة، فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار يأمرهم بختم رمضان بالاستغفار.
ويروى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: [الغيبة تخرق الصيام، والاستغفار يرقعه، فمن استطاع منكم أن يجيء بصوم مرقع فليفعل] .
أكثروا من الشكر لله، فإن الله قال في آخر آية الصيام: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:١٨٥] وقال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:٧] وقال: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:١٤٤] فاشكروا الله على إتمام رمضان، وعلى حسن الصلاة والقيام، وعلى الصحة والعافية في الأبدان، وليس الشكر باللسان أيها الأحبة! وإنما هو بالأقوال والأعمال معاً، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
سلام من الرحمن كل أوان على خير شهر قد مضى وزمان
سلام على شهر الصيام فإنه أمان من الرحمن أي أمان
ترحلت يا شهر الصيام بصومنا وقد كنت أنواراً بكل مكان
لئن فنيت أيامك الزهر بغتة فما الحزن من قلبي عليك بفان
عليك سلام الله كن شاهداً لنا بخير رعاك الله من رمضان
رمضان كان نهارك صدقةً وصياماً، وليلك قراءةً وقياماً، فإليك منا تحيةً وسلاماً، أتراك تعود بعدها علينا، أو يدركنا المنون فلا تئول إلينا، رمضان سوق قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر.
ها هو شهر رمضان، رحل عنا بعد أن انقضت أيامه وتصرمت لياليه، ولسان حال الصائم منا يقول:
فيا شهر الصيام فدتك نفسي تمهل بالرحيل والانتقال
فما أدري إذا ما الحول ولى وعدت بقابل في خير حال
أتلقاني مع الأحياء حياً أو أنك تلقني في اللحد بالي
أيها الأحبة! هذه مشاعر وتوجيهات عن رحيل رمضان، قصدت تأخيرها بعد رمضان بأيام؛ لنرى ونشعر بالفرق الكبير بين حالنا في رمضان وحالنا هذه الأيام على قلتها، فكيف يا ترى بحالنا بعد شهر وشهرين وأكثر؟! والعاقل اللبيب من جعل رمضان مدرسة لبقية الشهور، رغم أنني أكرر وأؤكد أننا لا نطالب النفوس أن تكون كما هي في رمضان، ولكننا نطالبها بالاستمرار والمداومة على الطاعات والواجبات، وتذكر الله وخوفه والصلة به، ولو كانت هذه الطاعات قليلة، فقليل دائم خير من كثير منقطع.
اللهم يا حي يا قيوم إن كان بسابق علمك أن تجمعنا في مثل هذا الشهر المبارك، فاجمعنا فيه يا حي يا قيوم، وإن قضيت بقطع آجالنا وما يحول بيننا وبينه، فأحسن الخلافة على باقينا، وأوسع الرحمة على ماضينا.
اللهم تقبل منا رمضان، واعف عنا ما كان فيه من تقصير وغفلة، واجعلنا فيه من الفائزين.
اللهم ارحم ضعفنا وتقصيرنا، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، لا حول لنا ولا قوة لنا إلا بك.
اللهم لا حول لنا ولا قوة لنا إلا بك فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.