للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الأخفياء وحالهم مع العلم]

جاء في ترجمة الإمام الماوردي رحمه الله تعالى كما ذكر ذلك ابن خلكان في كتابه: وفيات الأعيان قال: إن الماوردي لم يظهر شيئاً من تصانيفه في حياته، وإنما جمعها كلها في موضع، فلما دنت وفاته قال لشخص يثق إليه: إن الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي، وإن عاينت الموت ووقعت في النزع فاجعل يدك في يدي، فإن قبضت عليها وعصرتها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء منها فاعمد إلى الكتب وألقها في نهر دجلة ليلا، وإن بسطت يدي ولم أقبض على يدك فاعلم أنها قبلت وأني قد ظفرت بما كنت أرجوه من النية الخالصة، قال ذلك الشخص: فلما قارب الموت وضعت يدي في يده فبسطها ولم يقبض على يدي؛ فعلمت أنها علامة القبول فأظهرت كتبه بعده.

وقبله كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولا ينسب إلي شيء منه أبداً، فأؤجر عليه ولا يحمدوني.

فالإمام الشافعي رحمه الله تعالى يظن أن حمد الناس له منقصة في الأجر، ونقص في صفة الخفاء، تلك الصفة التي عشقت منهم رحمهم الله تعالى.

وينقل الذهبي أيضاً في السير قول هشام الدستوائي يقول: والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل! سبحان الله! القائل هشام الدستوائي! يقول الذهبي معلقاً على هذا الكلام: والله ولا أنا! فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبه قوم منهم أولاً؛ لا لله وحصلوه ثم استفاقوا وحاسبوا أنفسهم، فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق، إلى آخر كلامه في السير لمن أراد أن يرجع إليه.

فإذا كان هذا كلام هشام وكلام الذهبي رحمهما الله تعالى ورضي عنهما، فماذا يقول إذاً طلاب العلم اليوم؟! بل ماذا يقول المتعالمون أمثالنا في مثل هذه المواقف منهم رحمهم الله تعالى؟! ويصل الخفاء منتهاه عند أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى ورضي الله عنه، قال محمد بن منصور: كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري، فرفع إنسان قذاة من لحيته وطرحها إلى الأرض -يعني: في المسجد- فرأيت البخاري ينظر إليها وينظر إلى الناس، فلما غفل الناس عنه رأيته مد يده فرفع القذاة من الأرض فأدخلها في كمه، فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها وطرحها إلى الأرض.

سبحان الله!! حتى القذاة وإخراجها من المسجد كانوا يريدون إخفاءها بدقة رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.

هذه المواقف وهذه الصور من حياة أولئك الأعلام وأولئك الأخفياء الذين حرصوا أن يكون لهم خبيئة من عمل، الذين حرصوا أن يكون بينهم وبين الله أسرار وأسرار، وتلك الأعمال هي المنجية يوم أن تقدم على الله جل وعلا فتكشف الأعمال وتكشف الصحف، فإذا الصحف مليئة بتلك الأعمال، وتلك الأسرار بينك وبين الله عز وجل.

أيها الأخ الصالح! هذه القصص والصور ليست لمجرد القص والحديث، بل هي للعبرة والعظة -يا أخي الحبيب - أنت تجلس في المجالس وتتحدث مع الآخرين، ما بال مجالسنا في هموم الدنيا وملذاتها، أو في الغيبة والنميمة والكلام عن فلان وعلان؟! يا أختي المسلمة لنعلم مثل هذه المواقف، ولنحفظ شيئاً منها وإن كان قليلاً، ولنملأ مجالسنا بذكرها حتى يعلم الناس حقيقة هذه الأمور، ويرتبط الناس وترتبط قلوبهم بقلوب أولئك الرجال، فيتخرج الأجيال من مدارسهم رحمهم الله تعالى بالنظر إلى سيرهم وأحوالهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>