ثالثاً: سلامة المقصد
أن يكون القصد من العتاب مقصداً شريفاً، لأجل النصح والتوجيه، وليس لتتبع الزلات والسقطات، فإن بعض من يعاتب صاحبه من أجل أن يعد عليه سقطاته وزلاته، وبعض الناس يفعل ذلك تشفياً وانتقاماً للنفس -والعياذ بالله- وهنا إذا حصل ذلك يخرج العتاب عن معناه الصحيح، ويصبح هذا العتاب هو الشرارة الأولى للعداوة والبغضاء، وهو الذي عبر عنه الشاعر بقوله:
فدع العتاب فرب شر هاج أوله العتاب
اللهم أخرجنا من سجن الهوى إلى ساحة الهدى، واهدنا إلى صراطك المستقيم.
ثم لماذا العتاب؟ وما هو سبب العتاب؟ ولماذا دعوتكم للعتاب أيها الأحبة؟! اعلموا السبب -بارك الله فيكم- حتى تخرجوا وقد استفدتم من عتابنا لبعضنا.
لا يكون العتاب إلا بين الأصحاب والأحباب، اعلموا هذا جيداً، ولا أعاتب إلا من أحب ومن له في مكنون القلب ود.
أعاتب من يحلو بقلبي عتابه وأترك من لا أشتهي لا أعاتبه
إن قلوبنا أيها الأحبة! مضغة من اللحم، وإننا بشر ويجتمع على قلوبنا ما قرب وبعد، وهي عرضة للحمل والوجد وللشحن والبغضاء مهما كان الإنسان، وهنا أمامنا أمران: الأمر الأول: إما إهمال القلب وتركه عرضةً لهذه السهام حتى تجتمع عليه فتهلكه؛ فيصبح أسود مرباداً، لا يعرف معروفاً، ولا يعرف إلا الحقد والتشفي، والعياذ بالله.
الأمر الثاني: وهو
أعاتب ذا المودة من صديق إذا ما رابني منه اجتناب
إذا ذهب العتاب فليس ود ويبقى الود ما بقي العتاب
إذاً: لولا المحبة في القلوب، والحرص على صفاء النفوس، وبقاء الود، ما كان العتاب:
إني أعاتب إخواني وهم ثقتي طوراً وقد يصقل السيف أحيانا
هي الذنوب إذا ما كشفت درست من القلوب وإلا صرن أضغانا
وكما قال أبو الدرداء رضي الله عنه: [معاتبة الأخ خير من فقده] .
وقال بعض الحكماء: من كثر حقده قل عتابه.
وهذا دليل أن العتاب لا يكون إلا بين الأصحاب والأحباب.
وقال أبو بكر محمد بن داود الأصبهاني، في كتابه الزهرة -الذي ذكرناه قبل قليل- في الباب السادس عشر، قال: من لم يعاتب على الزلة فليس بحافظ للخلة.
ثم ذكر هذه الأبيات في لذة العتاب وحلاوته، وعدم الملل منه، خاصةً إذا كان بين عاشقين، ونحن نعوذ بالله من العشق، وإنما نريد المحبة والأخوة في الله، واقتراب القلوب وصفاء النفوس، قال:
فلا عيش كوصل بعد هجر ولا شيء ألذ من العتاب
تواقف عاشقان على ارتقاب أرادا الوصل من بعد اجتناب
فلا هذا يمل عتاب هذا ولا هذا يمل من الجواب