[الإخلاص والمتابعة أساسا قبول الأعمال]
أيها الإخوة! لقد أخلص الأوائل من -سلف هذه الأمة- فكان نومهم وطعامهم وشرابهم عبادة، نرى ذلك بركةً في أعمالهم، ونوراً في أقوالهم، وقبولاً لمصنفاتهم وكلامهم.
سبحان الله! أحياء بأعمالهم وأقوالهم، أموات بأجسادهم، إنه الإخلاص الذي من أجله خلقت أنت أيها الإنسان! {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:١-٢] .
قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لنراجع أنفسنا أيها الإخوة! لنقف هذه اللحظات وقفات مع أنفسنا، ولنسأل أنفسنا، هل كل عمل نعمله لله وكما جاء عن رسول الله؟ فإننا نقرأ في كتاب الله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:١١٠] .
فيا عجباً! يا عجباً من أهل الرياء على عمل يبهرجوه وربك يعلم ما تكن صدورهم! يا عجباً لمن يعمل لمخلوقين مثله ضعفاء! هب أن الناس مدحوك وأثنوا عليك ورفعوك وقالوا فيك وقدموك، فإن لم تكن عند الله كذلك فأنت والله صعلوك، أنت أعلم الناس بنفسك فلا يغروك.
أيها العقلاء! إنه الرياء، هباء في هباء {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:٢٣] فقولوا لمن لم يكن صادقاً لا يتعنى، يوم يقول الغني عنا: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري فهو للذي أشرك به وأنا منه بريء) كما في صحيح مسلم.
وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:٤٧] قال: كانوا قد عملوا أعمالاً كانوا يرونها في الدنيا حسنات، بدت لهم يوم القيامة سيئات.
وقال الثوري على هذه الآية: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، هذه آيتهم وقصتهم {وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:٤٧] .
لا إله إلا الله! كم نتزين للناس بأشكالنا؟ كم نظهر لهم أعمالنا؟ كم تعجبنا أنفسنا وأقوالنا؟ والله وحده أعلم بسرائرنا وبواطننا، إن الله لا ينظر إلى أجسامنا ولا إلى صورنا ولا إلى أموالنا، ولكن ينظر إلى أعمالنا وقلوبنا، فآه لقلوبنا! وآه لأعمالنا! فإذا كان أول ثلاثة تسعر بهم النار: قارئ القرآن، والمجاهد، والمتصدق بماله، الذين فعلوا ذلك ليقال: فلان قارئ، فلان شجاع، فلان متصدق، ولم تكن أعمالهم خالصةً لله، فكيف بمن دونهم؟ كيف بنا ونحن ننتظر ثناء الناس لنا؟ كيف بنا ونحن نطلب الثمن ربما لأعمالنا؟ كيف بنا ونحن نغضب لذكر عيوبنا؟ كيف بنا ونحن نقدم أهواءنا وحظوظنا؟ كيف بنا ونحن نتزين للناس بما ليس عندنا؟ قال الفضيل: كانوا يراءون بما يعملون، وصاروا اليوم يراءون بما لا يعملون.
فإنا لله وإنا إليه راجعون! إنه الشرك الخفي الذي هو أخطر ما يكون على الأمة، فما أعظم خطره وما أخوفه خاصةً على الصالحين والصالحات، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى، قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه) رواه أحمد وابن ماجة وحسنه الألباني.
إخوة الإيمان! رياء المرائين صير مسجد الضرار مزبلة وخربة {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} [التوبة:١٠٨] ، وإخلاص المخلصين رفع قدر التفث والشعث (رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره) .
أخي! قلب من ترائيه بيد من أعرضت عنه، ليصرفه عنك إلى غيرك، فلا على ثواب المخلصين حصلت، ولا إلى ما قصدته بالرياء وصلت، وفات الأجر والمدح.
فقولوا للواقفين بغير باب الله: يا طول هوانكم، وقولوا للمؤملين لغير فضل الله: يا خيبة آمالكم، قولوا للعاملين لغير وجه الله: يا ضيعة أعمالكم.
لا إله إلا الله! كم بذل نفسه مراء ليمدحه الخلق، فذهبت نفسه فانقلب المدح ذماً، ولو بذلها لله بقيت ما بقي الدهر.
اعلم أخي! أن رضا الناس غير مقدور، وتحصيله غير مطلوب، ومن ذا الذي يقدر على إرضاء الناس: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:١١٦] ، فاركن إلى الواحد الجبار واحرص على رضا العزيز الغفار.
وإياك إياك! أن تلتفت لأهل الأطمار، أيسرك أخي يوم القيامة أن يقال لك: اذهب فخذ أجرك ممن عملت له، لا أجر لك عندنا.
نعم.
فالعمل صورة، والإخلاص روح، انتبه أخي! إن لم تخلص فلا تتعب، فشجرة الإخلاص أصلها ثابت، وأما شجرة الرياء فإنها تجتث عند نسمة من كان يعبد شيئاً فليتبعه.