[راحة النفس واطمئنانها وسعادتها]
ثانياً: من آثار التوحيد في النفس: راحة النفس الموحدة واطمئنانها وسعادتها، فهي لا تقبل الأوامر إلا من واحد، ولا تمتثل النواهي إلا من واحد، وبهذا راحة للنفس، ولذلك ترتاح النفس وتطمئن ويسكن القلب ويهدأ، ومن المعلوم لكل عاقل أن النفس لا تحتمل الأوامر من جهات متعددة، فلا يعقل أن يكون للعبد أكثر من سيد، ولا للعامل أكثر من كفيل، وإلا سيقع عندها ضحية الأهواء، فكلٌ يأمر وكلٌ ينهى، وعندها لا يدري ماذا يعمل، فيصبح القلب شذر مذر، وفي هم وغم لا يدري من يرضي.
قال ابن القيم رحمه الله في الفوائد: وكما أن السماوات والأرض لو كان فيهما آلهة غيره سبحانه لفسدتا كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:٢٢] فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله تعالى فسد فساداً لا يرجى صلاحه إلا بأن يخرج ذلك المعبود منه، ويكون الله تعالى وحده إلهه ومعبوده الذي يحبه ويرجوه، ويخافه ويتوكل عليه وينيب إليه.
انتهى كلامه رحمه الله.
إذاً: فلا يعمل الموحد ولا يحب إلا لله، ولا يغضب ولا يكره إلا لله، وهنا يشعر القلب بالراحة والسعادة؛ فهو مطالب بإرضاء الله ولو غضب عليه أهل الأرض قاطبة، هذه هي حقيقة التوحيد، بل هذا هو الإخلاص لله في كل شيء {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:١٦٢-١٦٣] هل سألنا أنفسنا يوماً من الأيام ما هو هدفنا في الحياة؟ ولماذا خلقنا؟ كثير من المسلمين اليوم ممن يتلفظ بلا إله إلا الله، لو سئل عن هدفه في الحياة ربما لم يجب، وربما أجاب لكنها إجابة فيها تردد وحيرة! وربما تذكر تلك الأسئلة التي درسها يوم أن كان صغيراً في المراحل التعليمية الأولى، لماذا خلقنا الله؟ فكانت الإجابة: خلقنا الله لعبادته، وما هو الدليل؟ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] وما هو تعريف العبادة؟ اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
أظننا لا نجهل هذا، الكبير منا والصغير يعرفه، الذكر والأنثى يعلمه.
بل حفظه عن ظهر قلب، العجيب أن الكثير من الناس لا يفكر بهذه الكلمات التي حفظها وقرأها ورددها يوم أن كان صغيراً، بل لم يفهم معناها، وإن فهم معناها لم يعمل بمقتضاها، لماذا الفصل بين العلم والعمل؟ فالعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
في حياتنا ندرس ونقرأ ونسمع، فإذا خرجنا من مدارسنا أو مساجدنا تغيرت الأحوال، وتركنا العلم جانباً، وحكمنا الأهواء والمصالح الشخصية، والله المستعان! أيها الأخ! يقول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] أي: أن هدفك في الحياة هو عبادة الله عز وجل، تلك العبادة التي أخطأ كثير من المسلمين اليوم في فهمها، ولذلك ربما يقول قائل: الله عز وجل يريد منا دائماً أن نركع ونسجد ونصلي ونصوم ونحج ونقرأ القرآن فقط.
هذه هي الحياة، هكذا تريدون منا، لماذا؟ لأنه فهم الحياة على أنها هكذا فقط، أو أن العبادة على أنها فقط مقيدة بتلك العبادات الأربع المشهورة عند الناس، الصلاة والصيام والحج والزكاة هكذا يفهم بعض المسلمين الإسلام.
أيها المحب! ليس هذا هو مفهوم العبادة التي يريدها الله عز وجل منا، فنحن نردد أن العبادة -كما أسلفنا-: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة على الجوارح والباطنة في القلب.
إذاً: فكل فعل وقول وحركة وسكون في حياتك هي عبادة لله عز وجل بشرط: أن يحبها الله ويرضاها، وأن تكون خالصة لله، وكما جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو هدف المسلم في الحياة، هدف المسلم في الحياة رضا الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة، وفي كل حركة وسكون، فإذا اتضح الهدف للمسلم ارتاح قلبه واطمأنت نفسه وشعر بالسعادة؛ لأنه يعيش من أجل هدف سامٍ وغايةٍ واضحة ومبدأٍ عظيمٍ هو: رضا الله.
وبهذا المفهوم الصحيح للعبادة، فكل شيء في الحياة مع النية الخالصة لله يكون عبادة يؤجر عليها العبد، ولو أردنا أن نأخذ الأمثلة لطال بنا المقام، ولكن خذوا على سبيل المثال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة) إذاً وأنت تقضي وطرك وشهوتك تؤجر عليها (وإن لأهلك عليك حقاً) وأنت تجالس أهلك وأولادك وتقضي شأنهم وتعولهم تؤجر، حتى اللقمة تضعها في فيّ امرأتك وأنت تسعى لكسب الرزق لأولادك تؤجر، (ابتسامتك في وجه أخيك صدقة) بل حتى النوم تؤجر عليه بشرط أن يكون ذلك النوم على هيئة يرضاها الله عز وجل.
ألم يقل بعض السلف: [إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي] إذا عشت بهذا المفهوم تشعر بالاطمئان والسعادة والراحة؛ لأن كل حياتك ترضي الله عز وجل فتؤجر عليها، تقدم يوم تقدم على الله وكل صغيرة وكبيرة قد كتبت وسجلت في حسناتك.
الله أكبر! ما أحلى هذه الحياة، ما أحلى الدنيا بهموها وغمومها إذا عاش المسلم بمثل هذا المفهوم الواضح البين في حياته، حتى الهمّ -سبحان الله! - في حياة المسلم الموحد الصادق حتى الهمّ والمرض والتعب يؤجر عليها إذا كانت في رضا الله عز وجل، ألم يقل الحبيب صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من همٍّ ولا غمٍّ ولا نصب ولا وصب ولا حزن حتى الشوكة يشاكها المسلم إلا كفر الله بها من خطاياه) .
لا إله إلا الله: ما أحلاها في حياتنا قولاً وعملاً، لا كما يريد أعداء الله عز وجل، فيصوروها للناس أنها في المسجد فقط، وأنها في شهر رمضان وموسم الحج فقط، أما ما عداه فلا، ولذلك ربما سمعنا من بعض المسلمين وللأسف كلمةً أو عبارة تقول: أَدخلَوا الدين في كل شيء، ونقول له ولأمثاله: نعم الدين في كل شيء؛ فنحن مسلمون، والإسلام هو: الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخروج من الشرك، حفظناها يوم أن كنا صغاراً، تسليم واستسلام لله تعالى في كل شئون حياتنا.
لا حرية لك إلا في حدود الشريعة، لا حرية لك بلباسك ولا بقولك ولا ببيعك ولا بشرائك، ولا بذهابك ولا بمجيئك، إلا في هذه الحدود، نعم أيتها المسلمة! الإسلام حقيقةً يضبط حتى لباسك وفعلك وصفتك، إذا رضي الله عز وجل عن هذا الفعل وعن هذه الصفة فتوكلي على الله.
هنا تتضح حقيقة الإسلام في أن تستسلم لله عز وجل، إلا -والعياذ بالله- لو قال قائل: إنه خرج من الإسلام نقول له: افعل ما أردت بالحرية المزعومة التي ينادي بها كثير من الناس اليوم، كما قال تعالى للمشركين الذين تمردوا على دينه وشرعه مهدداً لهم: {قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:١٤-١٥] .
هناك يوم للحساب وللجزاء لا يمكن أن يغفل عنه الموحد أبداً، أما أنت أيها المسلم! فلك حرية، لكن بحدود الشريعة، فأنت أسلمت وجهك لله، وخضعت لدين الله، فعليك أن تلتزم الأوامر، وتجتنب النواهي كما يريد الله سبحانه وتعالى، قلت بلسانك: رضيت بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ونبياً، فلماذا أراك تخالف هذا الرضا بفعلك وحياتك؟ والله المستعان.
يا ليتنا نردد هذا المفهوم الصحيح للعبادة على نسائنا وصغارنا وطلابنا وزملائنا، بل على كل من نقابل مسلماً كان أو كافراً، ولماذا نردد ذلك على الجميع؟ لتتضح حقيقة هذا الدين ويسره وسهولته وسعته وفضل الله عز وجل علينا.
واسمعوها يا أحبة! والله ثم والله! لو عاش المسلمون بهذا المفهوم، لما كان هناك انفصام في شخصيات كثير من المسلمين، يأتي للمسجد يركع ويسجد، وربما بكى وسالت الدمعة على الخد خوفاً من الله، بل ربما كان في الصف الأول؛ لكن تعال وانظر لبيعه وشرائه، وانظر لتعامله في الربا، تعال وانظر للسانه، تعال وانظر لبيته وما فيه من وسائل الفساد، تعال وانظر لتلك المرأة في لباسها وفعلها وتبرجها -يا سبحان الله- أين أثر التوحيد وحقيقة التوحيد في نفوسنا؟! بل إن للتوحيد أثراً عجيباً في سعادة الزوجين في حياتهما، نعم والله.
هذا سر من أسرار الحياة الزوجية، للتوحيد أثر عجيب في سعادة الزوجين في حياتهما، فالقاعدة الأساسية للبيت السعيد: (أهلاً وسهلاً بما يرضي الله، وبعداً وسخطاً لما يغضب الله) فلو سار البيت على هذه القاعدة لوجد والله! السعادة والراحة، يتفق الزوجان على هذه القاعدة الجميلة فكل ما يرضي الله فأهلاً وسهلاً به في بيتنا، وكل ما يغضب الله فبعداً له وسخطاً؛ لأنه يغضب الله.
يا أهل التوحيد! لنحقق التوحيد كما يريده الله سبحانه وتعالى في نفوسنا، ولنراجع أنفسنا ونحاسب أنفسنا، أين أثر التوحيد في نفوسنا؟ لماذا بدأ يتناقص ويتراجع؟ ويظهر هذا النقص وهذا التراجع على بعض المسلمين الموحدين اليوم -وللأسف- نسأل الله عز وجل أن يحيينا حياة طيبة، وأن يميتنا على التوحيد، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله.