ومن مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مع مخالفيه بالرغم من إيذائهم له وتعديهم عليه بالباطل، إلا أنه لم يقابل ذلك رحمه الله تعالى إلا بالإحسان.
فها هو يقول في الفتاوى: وأنا والله من أعظم الناس معاونةً على إطفاء كل شر فيها وفي غيرها -يقصد الفتنة التي حصلت في وقته- وإقامة كل خير، وابن مخلوف - الذي يقول عن شيخ الإسلام ابن تيمية: هو عدوي، ولما بلغه أن الناس يترددون لـ ابن تيمية في سجنه قال ابن مخلوف عن ابن تيمية: يجب التضييق عليه وإن لم يقبل وإلا فقد ثبت كفره- لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خيرٍ إلا وأعمله معه، ولا أعين عليه عدوه قط، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هذه نيتي وعزمي، مع علمي بجميع الأمور، فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين، ولن أكون عوناً للشيطان على إخواني المسلمين.
اهـ.
ويقول -أيضاً- في موضع آخر: هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني، فإنه وإن تعدى حدود الله فيّ بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية: فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله وأفعله وأزنه بميزان العدل، وأجعله مؤتماً بالكتاب الذي أنزله الله وجعله هدىً للناس، حاكماً فيما اختلفوا فيه.
اهـ.
ويقول رحمه الله أيضاً: فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه علي أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي، وأما ما يتعلق بحقوق الله فإن تابوا تاب الله عليهم وإلا فحكم الله نافذ فيهم، فلو كان الرجل مشكوراً على سوء عمله، لكنت أشكر كل من كان سبباً في هذه القضية لما يترتب عليه من خير الدنيا والآخرة، ولكن الله هو المشكور على حسن نعمه وآلائه وأياديه التي لا يقضي للمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له.
اهـ.
ويقول ابن القيم عن شيخه ابن تيمية رحمه الله تعالى: وما رأيت أحداً قط أجمع لهذه الخصال -يعني: سلامة الصدر وتنقية القلب والعفو عن الناس- من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، بل كان يدعو لهم، وجئته يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوةً وأذىً له فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام، فسروا به ودعوا له وعظموا هذه الحال منه فرحمه الله ورضي الله عنه.
كرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي
هكذا هم -رضوان الله تعالى عليهم- في مواقفهم، وفي حياتهم، وفي أحوالهم مع من عاداهم أو حتى كفرهم أو فسقهم أو بدعهم أو آذاهم، هكذا تكون القلوب المؤمنة المتعلقة الخائفة الراجية من الله العفو والصفح، والتي تنظر للدنيا أنها دار ممر لا دار مقر، هكذا التعلق بالله جل وعلا وطلب العفو ومرضاته سبحانه وتعالى.