[الصورة العاشرة: الانقطاع وعدم الاستمرار]
أيها الأخ العزيز! تعال نتعاتب لقد شكوت لي حالك، وقلة بضاعتك في العلم والعمل، وذكرت لي أنك بدأت بحفظ القرآن فانقطعت، وبدأت بحضور درس الشيخ فلان فانقطعت، وذكرت لي أنك هممت بقراءة بعض الكتب فبدأت فانقطعت، وذكرت -أيضاً- أنك بدأت بعمل دعوي مع إخوة لك ثم انقطعت، وذكرت -أيضاً- أنك بدأت بنشاط للحي ومسجده ثم انقطعت، ثم ذكرت لي -أيضاً- أنك بدأت بمشروع خيري مع إخوانك فانقطعت، وبدأت بحفظ المتون فانقطعت وهكذا أنت مع كل مشروع في حياتك كما تزعم.
فأقول: يا سبحان الله! لقد أصبحت ذواقاً، فكيف ستبني شخصيتك، أو ستربي نفسك؟! وهذه بلوى كثير من شبابنا، فما أن يسلُك أمراً ويبدأ فيه إلا ويمله ويتركه، وما يبدأ بأمر فيعرف طريقه ويستوي على ظهره إلا وسرعان ما يصيبه الإملال، ثم هكذا يبدأ بعمل ثم ينتقل لعمل آخر، وهكذا يمضي العمر وتمضي الأوقات وهو في مكانه لا يتقدم بل يتأخر.
فالله الله! بالاستمرار والمداومة فكل نتاج بشري يبدأ أوله صغيراً، ثم مع الدوام والعزيمة يكبر ويكبر حتى يكون كما أريد له، والعاجز من بدأ ثم وقف متعللاً ببعد الطريق ووعورة المقصد، فرضي لنفسه بيومه، أي: رضي لها بالدعة والإهمال، فهو في عداد الموتى قبل أن يموت؛ لأن الحي الموفق من بدأ وتابع واستثمر كل ما يملك حتى ينجز ما نشد ورام.
وقل لي بالله يا أخي الحبيب؟! أكان يمكن أن يكون لمثل أبي حاتم الرازي أن يصنف كتابه المسند في ألف جزء، والجزء يساوي خمسة وعشرين صفحةً؟! أو يكون لمثل الإمام الطبري أن يزيد عدد أوراق مصنفاته الجليلة على نصف مليون ورقة؟! أو يكون لمثل الإمام ابن عقيل الحنبلي أن يصنف كتابه الفنون في ثمانمائة مجلد؟! أو يكون لمثل الحافظ ابن عساكر أن يصنف كتابه تاريخ دمشق في ثمانين مجلدة كبيرة؟! أو يكون لمثل شيخ الطب في زمانه ابن النفيس، أن يصنف كتابه الطبي الذي سماه الشامل -أيضاً- في ثمانين مجلدة؟! أو حتى يكون لمثل الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى التي أربت مصنفاته على أربعمائة مصنف من نخب العلم ودقاقه؟! وسواهم في سواها مما لا يحيطه حصر ولا عدد، لولا العزيمة الماضية، والهمة العالية، ومتابعة العمل، ودوام العطاء، ورصف المسألة بجوار المسألة، وتقييد الخاطرة تلو الخاطرة ووضع النظير مع النظير، وهكذا مع محاسبة للنفس على دقائق العمر وثوانيه، متوجاً ذلك كله بصدق النية وصدق التوكل؛ لما كانت هذه ثمرتهم.
إذاً: فخاطب نفسك يا أخي الحبيب! واقض على هذه المشكلة وقل لها:
ذريني أنل ما لا ينال من العلا فالصعب في الصعب والسهل في السهل
تريدين إدراك المعالي رخيصة ولا بد دون الشهد من إبر النحل
لتكن صاحب همة عالية وعزيمة صادقة، وتذكر بذلك الأسلاف رحمهم الله تعالى.
وما أصدق الشاعر الأديب بهاء الدين ابن النحاس الحلبي في قوله:
اليوم شيء وغداً مثله من نخب العلم التي تلتقط
يحصل المرء بها حكمة وإنما السيل اجتماع النقط
إن العمل مطلوب، والهمة مرجوة، والمتابعة والمداومة شرط لنجاح العمل، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (عليكم من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دوم عليه وإن قل) أخرجه البخاري ومسلم.
وذكر ابن حبان في صحيحه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (كان عمله صلى الله عليه وآله وسلم ديمةً) أي: دائم مستمر غير منقطع، وكما يقال: قليل دائم خير من كثير منقطع فهل وجدت لهذا الأمر ولهذا الانقطاع حلاً -رعاك الله وبارك فيك- حتى نكسب شخصاً ونكسب داعيةً بوقته وعلمه وعمله.