[الأخفياء وحالهم مع الصدقة على الفقراء والمساكين]
- أمير المؤمنين عمر في ظلمة الليل: خرج عمر بن الخطاب يوماً في سواد الليل وحيداً حتى لا يراه أحد، ودخل بيتاً، ثم دخل بيتاً آخر، ورآه رجل لم يعلم عمر أن هذا الرجل رآه، رآه طلحة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فظن أن في الأمر شيئاً، أوجس طلحة في نفسه، لماذا دخل عمر هذا البيت؟! ولماذا وحده؟! ولماذا في الليل؟! ولماذا يتسلل؟! ولماذا لا يريد أن يراه أحد؟! ارتاب طلحة في الأمر، والأمر عند طلحة يدعو للريبة.
ولما كان الصباح، ذهب طلحة فدخل ذلك البيت، فلم يجد إلا عجوزاً عمياء مقعدة، فسألها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟! وكانت المرأة لا تعرف أن الرجل الذي يأتيها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، قالت العجوز العمياء المقعدة: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا بما يصلحني ويخرج الأذى عن بيتي.
أي يكنس بيتها ويقوم بحالها ويرعاها عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
ولا نعجب! لا نعجب أن رئيس الدولة وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب يفعل ذلك، فكم من المرات فعل ذلك عمر رضي الله تعالى عنه، فهذه المواقف ليست عجباً في حياة عمر، ولكننا نعجب من شدة إخفاء عمر لهذا العمل حتى لا يراه أحد، وفي الليل، في سواد الليل، ويمشي لواذاً خشية أن يراه أحد فيفسد عليه عمله الذي هو سر بينه وبين الله.
- زين العابدين وصدقة السر:- ومثل ذلك سار عليه أيضاً زين العابدين رضي الله تعالى عنه وأرضاه، علي بن الحسين، فقد ذكر الذهبي في السير وابن الجوزي في صفة الصفوة: أن علي بن الحسين كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل، فيتصدق به ويقول: (إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل) .
وهذا الحديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة لا تخلو أسانيدها من مقال، ولكنها بمجموع الطرق صحيحة، وقد صحح ذلك الألباني رحمه الله في الصحيحة.
وعن عمرو بن ثابت قال: لما مات علي بن الحسين فغسلوه، جعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره، فقالوا: ما هذا؟! قالوا: كان يحمل جرب الدقيق -يعني: أكياس الدقيق- ليلاً على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة.
وذكر ابن عائشة قال: قال أبي: سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
- ابن المبارك يفك أسر صاحبه:- وعن محمد بن عيسى قال: كان عبد الله بن المبارك كثير الاختلاف إلى طرسوس، وكان ينزل الرقة في خان -يعني في فندق- فكان شاب يختلف إليه ويقوم بحوائجه ويسمع منه الحديث، قال: فقدم عبد الله الرقة مرة فلم ير ذلك الشاب، وكان مستعجلاً -أي عبد الله بن المبارك - فخرج في النفير -أي: في الجهاد- فلما قفل من غزوته ورجع إلى الرقة سأل عن الشاب فقالوا: إنه محبوس لدين ركبه، فقال عبد الله: وكم مبلغ دينه؟ فقالوا: عشرة آلاف درهم، فلم يزل يستقصي حتى دل على صاحب المال فدعا به ليلاً ووزن له عشرة آلاف درهم وحلفه أن لا يخبر أحداً ما دام عبد الله حياً، وقال: إذا أصبحت فأخرج الرجل من الحبس، وأدلج عبد الله -أي: سار في آخر الليل- وأخرج الفتى من الحبس، وقيل له: عبد الله بن المبارك كان هاهنا وكان يذكرك وقد خرج، فخرج الفتى في أثره فلحقه على مرحلتين أو ثلاث من الرقة، فقال عبد الله بن المبارك للفتى: أين كنت؟! لم أرك في الخان! -انظر عبد الله يتصانع رضي الله عنه أنه ما علم عن حال الفتى- قال: نعم.
يا أبا عبد الرحمن! كنت محبوساً بدين، قال: وكيف كان سبب خلاصك؟! قال: جاء رجل وقضى ديني ولم أعلم به حتى أخرجت من الحبس، فقال له عبد الله: يا فتى! احمد الله على ما وفق لك من قضاء دينك.
فلم يخبر ذلك الرجل أحداً إلا بعد موت عبد الله.