[عدم الحيرة والتردد]
ثالث عشر: من آثار التوحيد في النفوس: عدم الحيرة والتردد، وهذا مما ابتلي به الكثير من المسلمين اليوم، كالقلق والحيرة والتردد والهمّ والاكتئاب النفسي، وانظروا في العيادات النفسية لتروا الدليل على ذلك، كلما كان الإنسان موحداً مخلصاً لله منيباً إليه؛ كلما كان أكثر اطمئناناً وراحة وسعادة، وكلما كان الإنسان بعيداً عن الله كلما كان أكثر حيرةً وضلالاً وتردداً، اقرأ إن شئت قول الحق عز وجل: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:٧١] نقل ابن كثير في التفسير عن ابن عباس قال: [هو الذي لا يستجيب لهدى الله، وهو رجل أطاع الشيطان، وعمل في الأرض بالمعصية، وحاد عن الحق وضل عنه، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى، ويزعمون أن الذي يأمرونه به هو الهدى.
] إلى آخر كلامه رحمه الله.
لكن الهدى هدى الله، فأهل التوحيد أكثر الناس نوراً ويقيناً وطمأنينةً وإيماناً، وأبعدهم عن الحيرة والاضطراب والتخبط والتناقض، أما الكفار وأهل البدع والخرافات، فلا تسأل عن بؤسهم وشقائهم فالحيرة والقلق، واليأس والفراغ والملل والضيق والاكتئاب، كلمات تترد كثيراً في كتاباتهم ومؤلفاتهم وعلى ألسنتهم، بل في حياتهم وواقعهم وما ذلك الشباب الضائع الذي يعيش حياة البهائم، وقد دمر نفسه بالمخدرات والجنس والشذوذ والجرائم والانتحار؛ إلا من الدلائل والبراهين لتلك الحيرة، ولذلك التخبط والضلال الذي مزق الإنسان هناك في بلاد الكفر، والخرافات والبدع، بل إن من أبناء المسلمين -للأسف- من يقع فريسةً لهذه الأفكار والتصورات، نعم، انطفأت شعلة التوحيد في نفوسهم، فامتلأت حيرةً وشكاً، واضطراباً وتردداً، فهي تبحث عن السعادة تبحث عن النور تبحث عن الحق، وليس ذلك والله إلا بالتوحيد الخالص لله، بالتوحيد تعرف من أنت؟ ومن أين أتيت؟ ولماذا أتيت؟ وماذا يريد الله منك؟ ولولا الله ما كنت موجوداً في الوجود: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:٦-٨] بالتوحيد تعلم أنه خالق الكون، وموجد هذه النعم، وأنه سخرها لسعادتك وراحتك، فلا يمكن أبداً أن توجد الشمس أو القمر أو النجوم، وكل هذه الأمور المسخرات لك أنت أيها العبد! لا يمكن أبداً أن توجد هذه المخلوقات نفسها، ولا أن توجَد صدفة، فتعين إذاً أن يكون لها موجدٌ، وهو الله رب العالمين.
ولهذا لما سمع جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقرأ في سورة الطور، فبلغ هذه الآيات: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور:٣٥-٣٧] قال جبير -وكان مشركاً يومئذ-: كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي) والحديث رواه البخاري.
فدعوة لأحبابنا وإخواننا الذين أصابتهم الحيرة والتردد، دعوة إلى أن ينظروا فيمن حولهم ويتفكروا في خلق الله وقدرة الله، وهذا الكون العجيب، ليجدوا الراحة والسعادة بتوحيد الله عز وجل، ولا يمكن أبداً أن يكون ذلك إلا إذا كان هدفك أيها المسلم! هو رضا الله لا رضا غيره.
أما الحائرون المترددون الغافلون الضائعون، فيعبِّر عن ضياعهم أحدهم في قصيدة له سماها طلاسم، وهي طلاسم تسجل أفكار الضائعين، وخواطرهم وقلقهم، وحيرتهم واضطرابهم، وتورد نماذج لسؤالاتهم واستفساراتهم، يقول فيها:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمضيت وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري؟!
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود؟ هل أنا حر طليقٌ أم أسير في قيود؟ هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود؟ أتمنى أنني أدري! ولكن لست أدري؟
وطريقي ما طريقي أطويل أم قصير؟ هل أنا أصعد أم أهبط فيه وأغور؟ أنا السائر في الدرب أم الدرب يسير؟ أم كلانا واقفٌ والدهر يجري؟ لست أدري؟
إلى أن قال:
ألهذا اللغز حلٌ؟ أم سيبقى أبدياً؟ لست أدري؟ ولماذا لست أدري؟ لست أدري؟
أوراء القبر بعد الموت بعث ونشور؟ فحياة فخلود أم فناء فدثور؟ أكلام الناس صدقٌ؟ أم كلام الناس زور؟ أصحيح أن بعض الناس يدري؟ لست أدري
هذه الأسئلة التي أثارها في قصيدته هي أسئلة يرددها المحرومون من نعمة الله، الفاقدون حلاوة التوحيد، وأُنسه وطعمه ورائحته، إن هذه الأسئلة عند الموحدين المؤمنين لا تقلقهم بفضل الله تعلى ومنته، ففي ديننا الإجابة مفصلة عليها، وفي قرآننا وأحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام الكلام اليقيني الصحيح الصادق عنها، فهذه الأسئلة ليست طلاسم في تصور المسلم الموحد، بل على العكس، هذه الأسئلة وإجابتها هي مصدر اطمئنان المسلم، وثباته وسعادته وراحته، بل هي التي والله تحرك مشاعره، وتجري مدامعه، وتزيده استقامة وتوحيداً، فلا قلق في النفس، ولا اضطراب في الفكر، فالمنهج واحد والمبدأ واضح ثابت لا يتغير، فأنا أعلم من خلقني ولماذا خلقني؟ وإلى أين سأذهب؟ فهذه أسئلة مصدرها اطمئنان المسلم أو مصدر اطمئنان المسلم وراحته.
ولله در شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يقول: من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية.
ويقول -أيضاً-: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
نسأل الله الكريم من فضله.