[كثرة الخلوة بالنفس والدمعة المباركة]
الأثر الثالث من آثار هذا السر في حياة النبلاء: كثرة الخلوة بالنفس والدمعة المباركة، فما زالت خشية الله، وما زالت مراقبة الله في قلوب الصالحين حتى اختلوا بالله سبحانه وتعالى، مناجاة له جل وعلا في ظلمة ليل أو خلاء أو مكان لا يراه فيه أحد، وربما سالت الدموع على الخدود تذكراً لعظم ذنب أو لتقصير في حق الرب جل وعلا.
وهذا الأثر يوضحه لنا صلى الله عليه وآله وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) .
واسمع! (ورجل ذكر الله خالياً) لوحده في ظلمة ليل أو في مكان لا يراه فيه أحد، وتذكر عظم ذنبه وتقصيره في حق ربه، وتذكر منّة الله جل وعلا عليه وإنعام المولى سبحانه وتعالى، فسالت الدمعة على الخد خوفاً وخشية لله جل وعلا، فكان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
أسألكَ بالله وأسألكِ بالله! كم من المرات حدث لنا مثل هذا الموقف؟ كم من المرات اختليت بالله جل وعلا فتذكرت ذنبك وتقصيرك في حق ربك؛ فسالت الدمعة على الخد؟! إن جرّبت ذلك فزدْ، وإن لم تجرّب فجرّب، قف هذه الليلة في ظلمة الليل.
اختفِ عن أعين الناس وسترى أثر الإيمان وحلاوته وخشية الله ومراقبته في قلبك كيف يكون.
- خلوة الفاروق ومراقبته لنفسه: عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ما قرأت يوماً في سيرته إلا وتعجبت من مواقفه رضي الله عنه ورحمه، ولا أظن -والله! - يوماً أن دمع العين أخطأ مجراه عند قراءة سيرة هذا الرجل، ولا تقل -يا أخي الحبيب! - إن عمر مشهور، فوالله! مهما عرفت من قصصه ومواقفه فإنك تجهل الكثير الكثير في حياته.
هذا الرجل حياته عجب أيما عجب! ومواقفه كثيرة، وانظر مواقفه في خشية الله ومراقبة الله يوم أن كان صاحب قلب قاس متحجر، وقصته -وإن كانت تروى بأسانيد ضعيفة- في إسلامه، يوم أن حمل السيف، لماذا؟! ليقتل رسول الله، ولا أظن قلباً يحمل السيف لقتل رسول الله إلا وقد امتلأ هذا القلب بغضاً وحقداً وتكبراً وتجبراً، فسبحان الله! ولا إله إلا الله! يوم أن فعلت الأفاعيل في قلب هذا الرجل، فحولته من هذا القلب المتجبر القاسي إلى قلب رقيق لين خاشع باك خائف من الله جل وعلا.
يذكر الذهبي في سيرة عمر، وأبو نُعيم في حلية الأولياء، أن من صفة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه كان في خديه خطان أسودان؛ من أثر كثرة البكاء من خشيته لله وخوفه من الله.
ويحكى أنه كان يوماً من الأيام يقرأ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:١] حتى انتهى إلى قوله تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير:١٠] فخر مغشياً عليه رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
وكان يمر بالآية في ورده فتخنقه العبرة، فيبقى في البيت أياماً يُعاد يحسبونه مريضاً، كما ذكر ذلك الإمام أحمد في كتابه الزهد.
واسمع لموقفه العجيب مع امرأته! يوم اشتهت يوماً من الأيام حلوى، فأرادت أن يشتري عمر لها حلوى، ويا ليتها تريد من عمر أن يشتري حلوى من بيت مال المسلمين، لا.
وإنما من مال خاص بها، فاسمع لهذا الحوار بينها وبينه في هذه الأبيات:
فمن يباري أبا حفص وسيرته أو من يحاول للفاروق تشبيها
يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها
لا تمتطي صهوات النفس جامحة فكسرة الخبز عن حلواك تجزيها
وهل يفي بيت مال المسلمين بما توحي إليك إذا طاوعت موحيها
قالت: لك الله إني لست أرزؤه مالا لحاجة نفس كنت أبغيها
يعني: المال خذه.
فقال لها:
ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به أولى فقومي لبيت المال رديها
قد فر شيطانها لما رأى عمراً إن الشياطين تخشى بأس مخزيها
هذي مناقبه في عهد دولته للشاهدين وللأعقاب أحكيها
في كل واحدة منهن نابلة من الطبائع تغدو نفس راعيها
لعل في أمة الإسلام نابتة تجلو لحاضرها مرآة ماضيها
حتى ترى بعض ما شادت أوائلها من الصروح وما عاناه بانيها
وحسبها أن ترى ما كان من عمر حتى ينبه منها عين غافيها
هكذا كانت حياة الفاروق رضي الله تعالى عنه وأرضاه كثرة خلوة بالنفس وبكاء وخشية لله.
ويوم أن كان على فراش الموت قال لولده عبد الله وقد رفع رأسه: [ضع رأسي على التراب، يا ليت أم عمر لم تلد عمر، يا ليت عمر كان شجرة تعضد] .
لا إله إلا الله! إنها خشية الله عندما تكون في قلوب الصالحين.
- إمام أهل السنة يخفي الدمعة: أحمد بن حنبل ناصر السنة إمام أهل السنة والجماعة قامع البدعة رضي الله تعالى عنه وأرضاه صاحب الزهد والورع، له كتاب مؤلف اسمه: كتاب الزهد، مطبوع وموجود في المكاتب، يروى في سيرته أنه كان يوماً من الأيام جالساً مع تلاميذه يحدثهم، فشعر في نفسه برقة ولين قلبٍ -وهكذا كانوا رحمهم الله يخفون دمعاتهم- فقام من المجلس، تأخر على التلاميذ، فذهب أحد التلاميذ ليبحث عن الإمام وينظر لماذا تأخر، فلما أقبل على باب الغرفة فإذا به يسمع الإمام أحمد يتمثل هذين البيتين ويبكي رضي الله تعالى عنه وأرضاه:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقلْ خلوتُ ولكن قلْ عليَّ رقيب
ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب
يردد هذين البيتين ويجهش بالبكاء رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
هكذا كانت الخلوة وخوف الله في قلوب أولئك النبلاء رحمهم الله تعالى.
وفي الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع) فهذا فضل لأولئك البكائين.
فيا أيها الإخوة! ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، فها هي نيران المعاصي والغفلة تأتي على قلوبنا فتحيل بينها وبين الخشوع والخشية لله، فهل نطفئها بالدموع الغالية ونبدأ المسير إلى الله جل وعلا؟! يا شيخ إنه الله! واسمع لموقف تربوي يحكيه لنا بعض أهل التربية في كتبهم، وفيه عبرة ونظرة للمربين وللمدرسين والمدرسات: يقال أن أحد المربين قال لصغاره: يا أبنائي! إذا كان من الغد فلا يأتي أحدٌ منكم إلا وبيده دجاجة قد ذبحها في مكان لا يراه فيه أحد، فلما كان من الغد، جاء الغلمان الصغار كلهم وقد علّق كل فرد منهم بيده دجاجة قد ذبحها في مكان لا يراه أحد، كما هي وصية شيخه، إلا تلميذاً واحداً، فقال له المربي: لماذالم تفعل كما فعل زملاؤك؟ وأين دجاجتك؟ قال الصغير: يا شيخ! إنك قلت لي أن أذبح الدجاجة في مكان لا يراني فيه أحد، وإنني صعدت السطح فوجدت أن أحداً يراني، ودخلت الغرفة فوجدت أن أحداً يراني، وما تركت مكانا في البيت إلا وكان هذا الأحد معي يراني.
فقال الشيخ: من هذا الأحد يا غلام؟! فقال الصغير -الذي تربى على خشية الله ومراقبة الله-: يا شيخ إنه الله! إن الله معي في كل مكان يراني! فضمه الشيخ وقال: أحسنت أحسنت، أنت ابني إذاً.
هكذا تكون التربية لأبناء المسلمين، وأقول هنا للمدرسين والمدرسات: أين أنتم من هذا المبدأ وغرسه في نفوس الصغار؟ أين أنتم من حمل الأمانة التي ضيعها كثير من أولئك؟! إن صغار المسلمين وأبناء المسلمين أمانة في أعناق كل مسلم ومسلمة، فمتى فكرت يوماً من الأيام أن تربي أو أن تخوّف هؤلاء الصغار بالله جل وعلا، وأن تغرس مثل هذا المبدأ في نفوسهم؟ ومتى وقفت أيتها الأم! أو أيها الأب! لتربي ابنك أو صغيرتك على هذا المبدأ؟! كثير من الأمهات إذا أرادت أن تخوف صغارها تخوفهم بأبيهم، ولذلك ينشأ الصغير على خوفه من أبيه، فإذا غاب الأب أصبح الصغير يفعل كل أمر تمليه عليه نفسه، وبسبب هذا الخطأ التربوي وجدنا أن كثيراً من الصغار -مثلاً- لا يحرص على صلاة الجماعة إلا إذا كان والده موجوداً.
ولو أننا حرصنا على تربية الصغار أو تخويفهم بالله جل وعلا وإذا فعلوا شيئاً قلنا: إن الله يراك إن الله يغضب عليك، وخوفناهم بالنار، ورغبناهم في الجنة، فلا علينا إذا أطلقنا بعد ذلك العنان لهذا الصغير يذهب أينما شاء؛ لأنه كلما حدثته نفسه بمعصية تذكر رقابة الله وخوف الله، وبدأ قلبه الذي تربى على هذا المبدأ يفعل فعله، فيصبح سداً منيعاً أمام الشباب، وأمام الصغار بينهم وبين المعصية، وبينهم وبين وساوس الشيطان.