رابعاً: من مظاهر الرجل الصفر: الاستجابة للنفس الأمارة، الاستجابة لشهواتها ولذاتها، بل وتمكينها قيادة العقل وتغييبه، حتى لم يعد يصبح للنفس اللوامة مكاناً، فمات الشعور بالذنب، ومات الشعور بالتقصير، لذلك ظن الكثير من المسلمين أنه على خير، بل ربما لم يرد على خاطره أنه مقصر، فبمجرد قيامه بأصول الدين، وبمجرد محافظته على الصلوات، بل ربما والتزامه في الظاهر ظن في نفسه خيراً عظيماً، رأى نفسه فظن فيها خيراً عظيماً، ولكن ما كيفية هذا القيام؟ وما حقيقة هذا الالتزام؟ وهل قبل الله منه أم لا؟ بل لماذا نسي مئات بل آلاف من الصغائر التي تجمعت عليه من الذنوب والمعاصي؟ ففي حديث سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه وأرضاه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود، حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يأخذ بها صاحبها تهلكه) أخرجه أحمد بسند حسن.
فأعجبتنا أنفسنا وأعمالنا، فرضينا بما نحن عليه، وأعلنا الاكتفاء وعدم المزيد، فكانت النتيجة: السلبية ودنو الهمة، وعدم التطلع لما هو أفضل وأحسن، وربما نظر أحدنا إلى من هو دونه في العبادات فأعجبته نفسه، وتقاعس عن الكثير من أبواب الخير.
واسمع لشعر هذا الكناس وعزته، قال الأصمعي: مررت بكناس -يكنس الشوارع- في البصرة ينشد يقول:
فإياك والسكنى بأرض مذلة تعد مسيئاً فيها إن كنت محسنا
ونفسك أكرمها وإن ضاق مسكن عليك بها فاطلب لنفسك مسكنا
هذا الذي يقوله الكناس، فقلت -أي: الأصمعي -: والله لن يبقى بعد هذا مذلة، وأي مذلة بعد الكنس؟ فقال الكناس: والله لكنس ألف مرة، أحسن من القيام على باب مثلك.
هكذا تكون عزة المسلم أياً كان ذلك العمل الذي يقوم به، مادام أنه يقوم به لله عز وجل.