للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حقيقة الرجل الصفر]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذه ليلة السبت الموافق للحادي عشر من شهر الله المحرم للعام السادس عشر بعد الأربعمائة والألف من الهجرة النبوية الشريفة والأصل أن يكون عنوان هذا اللقاء: (الخائفون) كما هو معلن، لكن نظراً لعدم اكتمال الموضوع ولبعض الظروف؛ سيكون هذا اللقاء بمشيئة الله بعنوان آخر وهو: (الرجل الصفر) .

وأعني بالرجل الصفر ذلك الرجل الذي يتصف بالسلبية ودنو الهمة، ذلك الداء الخطير الذي أصاب الكثير من المسلمين وخاصة الشباب والفتيات، وكما أن هناك رجلاً صفراً، فإن هناك أيضاً امرأة صفراً، وكل ما قيل في هذا الموضوع يشمل الرجال والنساء معاً، إلا فيما يختص به الرجال من مجال، ولذلك على النساء أن ينتبهن وأن يتابعن مثل هذا الموضوع؛ فإنها تشارك الرجل في كل كلمة تقال فيه.

إنك إن بحثت عن شبابنا كأمة إسلامية، وجدتهم -وللأسف- على الأرصفة وفي الاستراحات وفي الصيد والرحلات، وعلى المدرجات الرياضية وخلف الشاشات؛ حتى بعض الصالحين -أيضاً- هم كذلك -وللأسف- ابتلوا بمثل هذه الأمور، فبدل أن يكونوا مشاعل هداية ودلال خير، فإذا بالتيار يجرفهم فيزعزع التزامهم وصلاحهم:

وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن أطعمت تاقت وإلا تسلت

وكانت على الآمال نفسي عزيزة فلما رأت عزمي على الترك ولّت

وإذا بحثت عن فتياتنا ومهج قلوبنا، فإذا بهن في الأسواق خلف الخرق والأقمشة، أو خلف سماعات الهاتف يمزقن الفضيلة، أو مع مجلات وروايات تنشر الرذيلة، أو أمام الشاشات والأفلام حتى أصبحن بلا هوية وبلا هدف وبلا مبدأ ولا عزيمة ولا همة، شهوات في شهوات، ولذات في لذات، وآهات وزفرات وحسرات، إلا ما شاء الله من النخبة القليلة.

وإني لأعجب أيها الإخوة! ألم يمل أولئك هذه الحياة؟! ألم يسألوا أنفسهم: هب أننا حصلنا على كل ما نريد، ثم ماذا؟ ألم يسألوا أنفسهم هذا

السؤال

ثم ماذا في النهاية؟! الموت والحساب والعذاب، والقبر والصراط والنار.

إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم

إن الموت نهاية الجميع، لكن شتان بين من مات في أمر حقير، وبين من مات في أمر عظيم شتان بين من يموت وهو على طاعة الله، وبين من يموت وهو على معصية الله شتان بين من يموت وهو يحمل هم الإسلام ويحترق قلبه لصلاح المسلمين، وبين من يموت وهو يحمل هم شهوات الدنيا ولذاتها.

ألم يأن لشبابنا ولفتياتنا أن يعلموا حقيقة الحياة، والغاية التي من أجلها خلقوا؟ ألم يأن للران أن ينقشع عن القلوب، قبل أن يجمدها هاذم اللذات؟ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:١٦-١٧] .

اللهم أحي قلوب المسلمين، اللهم أحي قلوب شبابنا وفتياتنا، اللهم أحي قلوب الشباب الصالحين، اللهم ردها إليك رداً جميلاً، اللهم انفعها وانفع بها يا حي يا قيوم! أيعقل أن يصل الأمر بمسلم -أو بمسلمة- يحمل في قلبه (لا إله إلا الله) إلى مثل هذا الحد من الغفلة والضياع والحيرة والتردد؟ أيها الأخ الحبيب! أيتها الأخت الغالية! إن لـ (لا إله إلا الله) نوراً في القلب، فهل انطفأ هذا النور؟ اسمع لكلام ابن القيم الجميل يوم أن قال: اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور وتفاوت أهلها في ذلك النور قوةً وضعفاً لا يحصيه إلا الله تعالى، فمن الناس من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف.

ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علماً وعملاً ومعرفةً وحالاً، وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهةً ولا شهوةً ولا ذنباً إلا أحرقه.

وهذا حال الصادق في توحيده، الذي لم يشرك بالله شيئاً، فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها.

فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته، فلا ينال منها السارق إلا على غرة وغفلة لا بد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه، استنقذه من سارقه أو حصل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبداً مع لصوص الجن والإنس ليس كمن فتح لهم خزانته وولى الباب ظهره.

انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

فأقول إلى كل من ابتلي بهذا الداء أو بشيء منه -أقصد السلبية ودنو الهمة-: أهدي هذه الكلمات وهذه التوجيهات، سائلاً المولى عز وجل أن ينفع بها الجميع، وأن يجعلها خالصة لوجهه، مع علمي أن الهمم والعزائم تتفاوت، فلا نريد من أحد إلا ما يقدر عليه ويستطيع، لكن على شرط أن يعلم أن بيده الكثير وأنه قادر على خير وفير، متى؟ إذا علم أنه يحمل لا إله إلا الله في قلبه، وأنه على المبدأ الحق، وأن الله معه يحفظه ويرعاه، وأن الجنة موعده إن توفاه، فإن عاش عاش عزيزاً وإن مات مات شهيداً، عندها أقول:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم

ولقد جعلت لهذا الداء مظاهر وأسباباً وعلاجاً، على اختصار شديد وتقصير أكيد، فما هو إلا وجهة نظر واجتهاد بشر يعتريه الصواب والخطأ، أسأل الله عز وجل أن يغفر لي الخطأ وأن يلهمني الصواب، فما أردت إلا الإصلاح وما توفيقي إلا بالله.

<<  <  ج: ص:  >  >>