للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حكمة جعل الأيام دولاً بين المسلمين وبين أعدائهم

سؤال قد يرد على الخاطر يسأله كثير من الناس اليوم في مجالسهم ومنتدياتهم، لماذا يمكِّن الله الكافرين من المسلمين؟! ولماذا ينصرهم عليهم؟! ولماذا ينتصر أعداء الله عز وجل على المسلمين؟! هذا سؤال قد يرد على خاطر كثير من الناس.

أقول: الإجابة أسوقها إليك من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان الجزء الثاني صفحة (٢٧٣) ، وانتبه لهذا الكلام فإنه كلام نفيس جميل جداً، الأصل أن نتناقله وأن نردده على مسامعنا وعلى الناس حتى يتبين لنا لماذا يبتلينا الله عز وجل بمثل هذه المصائب؟ يقول: الأصل الثامن: أن ابتلاء الله بغلبة عدوهم لهم وقهرهم وكسرهم لهم أحياناً فيه حكمة عظيمة لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل، فمنها: استخراج عبوديتهم وذلهم لله وانكسارهم له وافتقارهم إليه وسؤاله نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائمين منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا، ولو كانوا دائماً مقهورين مغلوبين منصوراً عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة، ولا كان للحق دولة، فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين، أن صرفهم بين غلبهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة، فإذا غُلِبوا تضرعوا إلى ربهم، وأنابوا إليه وخضعوا له وانكسروا له وتابوا إليه، وإذا غَلَبوا أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوه، ونصروا أولياءه.

ومنها -أي من الحكم- أنهم لو كانوا دائماً منصورين غالبين قاهرين لدخل معهم من ليس قصده الدين، ومتابعة الرسول، فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائماً لم يدخل معهم أحد فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة وعليهم تارة، فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه.

إذاً: التمييز بين الصادق من غيره، من حكم ابتلاء الله المؤمنين، تمييز الخبيث من الطيب {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ} [آل عمران:١٧٩] هذا هو الأصل {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ} كيف نكتشف إسلام هذا الإنسان إلا بالابتلاءات والفتن والشدائد، هنا يتضح المؤمنون الصادقون، ويتضح المنافقون الذين أصابوا قلوبهم بالخوف، والهلع عند الشدائد والمحن.

يقول ابن القيم: ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم، فلله سبحانه على العباد في تلك الحالتين عبودية بمقتضى تلك الحال، لا تحصل إلا بها، ولا يستقيم قلب بدونها، كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد، والجوع والعطش، والتعب والنصب وأضدادها تلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنساني، والاستقامة المطلوبة منه، ووجوه الملزوم بدون لازمه ممتنع.

يقول: ومنها أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم، يمحصهم ويخلصهم ويهذبهم، كما قال تعالى في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد قال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:١٣٩-١٤٠] إذاً من الحكمة {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:١٤٠-١٤١] يخلصهم من ذنوبهم، من غفلتهم، مما تراكم عليهم من الغفلة والذنوب، فإن في هذه الابتلاءات تمحيص وتخليص وتهذيب لهم من الله عز وجل، وأيضاً اتخاذ للشهداء منهم في مثل هذه الأمور، ثم يقول سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:١٤٢-١٤٤] .

يقول ابن القيم: فذكر سبحانه أنواعاً من الحكم التي لأجلها أديل عليهم الكفار بعد أن ثبتهم، وقواهم وبشرهم بأنهم الأعلون بما أعطوا من الإيمان، وسلاهم بأنهم وإن مسهم القرح بطاعته وطاعة رسوله، فقد مس أعداءهم القرح في عداوته وعداوة رسوله.

يا أخي الحبيب! أنت على حق وعلى مذهب صادق، وعلى عقيدة واضحة وعلى مبدأ لا إله إلا الله، إن مت فبالجنة، وإن حييت ففي عزة وكرامة، أما أعداء الله عز وجل فهم على أي حال خسروا الدنيا والآخرة، فكر بمثل هذا حتى تقوم، حتى تعمل، حتى تتحرك لنصرة هذا الدين بما تستطيع.

ثم يقول ابن القيم رحمه الله: ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دولاً بين الناس، فيصيب كل منه نصيبه منها كالأرزاق والآجال.

ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم، وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كونه، وبعد كونه، ولكنه أراد أن يعلمهم موجودين ومشاهدين، فيعلم إيمانهم واقعاً، ثم أخبر أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء، فإن الشهادة درجة عالية عنده، ومنزلة رفيعة لا تنال إلا بالقتل في سبيله، فلولا إدالة العدو لم تحصل درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه وأنفعها للعبد، ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين، وأن تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة والرجوع إليه واستغفارهم من الذنوب التي أُديل بها عليهم العدو، وأنه مع ذلك يريد أن يمحق الكافرين ببغيهم وطغيانهم وعدوانهم إذا انتصروا، ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم دخول الجنة بغير جهاد ولا صبر، وأن حكمته تأبى ذلك فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر، ولو كانوا دائماً منصورين غالبين لما جاهدهم أحد، ولما ابتلوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم، فهذه بعض حكمه في نصرة عدوهم عليهم وإدالته في بعض الأحيان) انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

وهذا الكلام كما ذكرت كلام جميل يجب أن نرجع إليه وننظر فيه، ونتناقله بين المجالس ونبينه للناس حتى يعلم الناس حقيقة هذه الابتلاءات التي تحصل للمسلمين.

<<  <  ج: ص:  >  >>