[السر في حياة الأتقياء]
لست هنا لأتكلم عن ثمرات التقوى، وإنما لأتكلم عن السر العجيب في حياة هؤلاء.
وثمرات التقوى كثيرة، ذكرها الله جل وعلا في كتابه كثيراً، وترددت في أكثر من سورة، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:٤] ويقول سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ} [البقرة:٢٨٢] ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق:٥] .
وكما ذكرت ما السر العجيب في حياة هؤلاء الأتقياء؟ ما الذي جعلهم بصورة تجعلنا ونحن نقرأ مواقفهم وننظر في أحوالهم نتعجب أشد العجب؟! فإذا نظرنا إلى أنفسنا قلنا: لعل هذه أساطير الأولين، لولا أنها رويت لنا بالأسانيد الصحيحة، وفي أمهات الكتب التي كتبها أولئك الأتقياء رضوان الله تعالى عليهم.
فما هو السر العجيب في حياة أولئك حتى وصلوا إلى مثل هذه الثمرة، فأصبحوا من أحباء الله الذين نالوا شرف هذه المحبة؟ اسمع للسر العجيب قبل أن أفصح عنه وهو يتحدث إلى القلب: عذراً أيها القلب أعرفتني؟ لا تقل إنك لا تعرفني؛ فقد وقفت على مشارف أسوارك، وقرعت أبوابك كثيراً، وكنت أحوم لأجد منفذاً أنفذ إليك منه.
إيهٍ أيها القلب لقد أصبحت أقسى من الحجر، لماذا تحاول الهروب مني؟! ولماذا هذا الصدود عني؟! فكلما هممت بأمر سوء حاولت الوقوف أمامك لتراني لتذكرني لترجع عن همك، لكنك تتجاهلني وكأنك لا تراني!! ويحك أيها القلب إنني السر العجيب في حياة القلوب إنني السر العجيب في ترك الفتور والهوان إنني أريدك أن تحيا حياة السعداء أريدك أن تكون علماً من الأعلام وصالحاً من الصالحين أريدك أن تكون مباركاً في أعمالك وأقوالك.
تعال أيها القلب! تعال واسمع لحياة النبلاء، وسير الرجال، يوم أن كنتُ أتربع على العرش في قلوبهم، وأصول وأجول في صدورهم:
كانوا جبالاً في الجبال وربما ساروا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذانهم قبل الكتائب يفتح الأمصارا
كانوا يروا الأصنام من ذهب فتهدم ويهدم فوقها الكفارا
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتهم والأرض تقذف نارا
اسمع أيها القلب! يوم أن فتح لي أولئك الرجال قلوبهم، فأصبحوا سادة في كل شيء نعم.
في كل شيء.
ذكر الذهبي في السير أن الحسن بن علي مولى ابن المبارك قال: اجتمع جماعة فقالوا: تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والزهد، والفصاحة، والشعر، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو، والفروسية، والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة فقد سار منها نورها وجمالها
إذا ذكر الأخيار في كل بلدة فهم أنجم فيها وأنت هلالها
أسمعت أيها القلب؟! بفضل الله ثم بفضلي كان كل ذلك، فهل عرفتني؟ بل تعال واسمع، وقبل أن أفصح عن نفسي وعن هويتي، تعال واسمع لعلم ثان من هؤلاء الأعلام.
إنه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، مؤرخ مفسر محدث مقرئ فقيه أصولي من أكابر الأئمة المجتهدين، قال الخطيب البغدادي في تاريخه: كان أحد أئمة العلماء يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه؛ لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام ومسائل الحلال والحرام، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك، وكتاب في التفسير لم يصنف في التاريخ أحد مثله.
أسمعت أيها القلب؟ ألا تسأل إذاً ما هو السر في حياة النبلاء؟! إنه أنا السر، السر العجيب! فأين أنت من أولئك؟! هل تذكر لي -يا أخي! - منقبة واحدة لك من تلك المناقب التي عددناها لأولئك الأعلام؟! مسكين أنت أيها القلب! غرقت في الشهوات والملذات أصابك الخمول والكسل أصابك الفتور والهوان أصبحت عبداً للدنيا دون أن تشعر، كل ذلك يوم هجرتني!! أيها القلب! إن الأمثلة في حياة النبلاء كثيرة وطويلة، ولكن خذ مثلاً ثالثاً وأخيراً لتقتنع: أسمعت بـ ابن تيمية؟! لا شك نعم.
إذاً: فاسمع كلام ابن سيد الناس فيه، يقول عنه رحمه الله تعالى: كاد يستوعب السنن والآثار حفظاً، إذا تكلم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه وروايته، أو حاضر بالملل والنحل لم تر أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين مَن رآه مثله إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى.
وابن تيمية هو العالم المجاهد العابد الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، فعجيبٌ أمر أولئك كيف جمعوا تلك الخصال كلها!! بينما تنظر إلى حالك أيها القلب! فلربما لم تجد خصلة واحدة فيك.
لكنه السر العجيب! الذي حولهم إلى أعلام وأبطال.
فافتح لي أبوابك أيها القلب! وتذكرني جيداً واجعلني ملازماً لك؛ تنل الخير كله في الدنيا والآخرة.
فهل عرفتني أيها القلب؟ أو أنك ما زلت تتجاهلني؟ لا شك أنك عرفتني فالآن أتركك وسأرجع إليك بعد حين، حتى تعد لي منزلاً، في سويداء قلبك!!