[محبة أهل الإيمان وبغض أهل الكفر]
ثامن عشر: محبة أهل الإيمان وموالاتهم وبغض المشركين ومعاداتهم، فالتوحيد يظهر الأعاجيب في النفوس الموحدة، فمن حقد وبغض وعداء إلى حب ومودة وإخاء، وما صنعه التوحيد في نفوس المهاجرين والأنصار من مواقف يجب ألا تنسى، بل لا بد أن تروى وتروى لنرى الأثر النفسي العجيب بالتوحيد الصادق.
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب المساقاة: باب كتاب القطائع عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار ليقطع بـ البحرين، فقالوا: يا رسول الله! إن فعلت فاكتب لإخواننا من قريش بمثلها، فلم يكن ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني) .
قال ابن حجر: وفي الحديث فضيلة ظاهرة للأنصار لتوقفهم عن الاستئثار بشيء من الدنيا دون المهاجرين، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فحصلوا بالفضل على ثلاث مراتب: إيثارهم على أنفسهم، ومواساتهم لغيرهم، والاستئثار عليهم.
انتهى كلامه رحمه الله.
وأخرج البخاري -أيضاً- في صحيحه في كتاب المناقب مناقب الأنصار (باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار) عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: (لما قدموا المدينة -أي: المهاجرين- آخى رسول صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن وسعد بن الربيع -أي: بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع - قال سعد لـ عبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك أين سوقكم؟!) الحديث.
سبحان الله! أي حب هذا الذي أحدثه التوحيد في نفوس المؤمنين؟! أي مودة بين المسلمين الموحدين الصادقين؟! هكذا التوحيد يفعل بأهله! أما بغض المشركين فنحن وإياهم على طرفي نقيضٍ، فقد يتساءل البعض: لماذا نبغض المشركين؟ ولماذا يأمرنا الإسلام ببغض المشركين؟ فأقول: لأننا وإياهم على طرفي نقيضٍ، فنحن أهل توحيدٍ وهم أهل شرك، وبيننا وبينهم عداوة وبغضاء حتى يؤمنوا بالله وحده، كما قال تعالى، بل العجب أنهم إن آمنوا بالله وحده كانوا من إخواننا ومن أحب الناس إلى قلوبنا، كما قال الحق عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:٤] فكيف بمن ينصرونهم من أهل التوحيد؟ وكيف بمن يعينونهم أو يعاونونهم على المسلمين في بعض الأحايين؟ بل كيف بمن يحبهم ويقربهم؟ والله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:٥١] كيف بمن يأتي بهم وربما يقدمهم على المسلمين؟ فأين هم عن حقيقة التوحيد؟ وصدق ابن الجوزي رحمه الله: إنما يتعثر من لم يخلص.
ولا شك أن هذا كله بسبب الإعراض عن تعلم العلوم الشرعية، وعدم الفقه في دين الله، خاصة في التوحيد والعقيدة، ولو أن المسلمين صاروا يداً واحدة، وحققوا معاني التوحيد كما يريدها الله عز وجل، وتناصروا فيما بينهم لصار لهم شأن غير ما نحن فيه الآن، ولصار الكفار أذلاء ونحن نرى حال الناس، وكيف تنقض عرى إسلامهم عروة عروة! ومما انتقض من عُراه: الحب في الله والبغض في الله، والمعاداة لله وفي الله، كما جاء في الحديث المشهور: (إن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله) وأنت ترى حال الكثير حبه لهواه، وبغضه لهواه، ولا يسكن إلا لمن يلائمه في طبعه وهواه، وإن غره وأغراه فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أيها الأحبة! إن للتوحيد آثاراً على النفس الموحدة، لا بد أن تظهر عليها، فمن لم يجدها فليراجع توحيده، وليحاسب نفسه، وذكرنا من الآثار ما ذكرناه وتركنا ما تركناه لحال المقام، فالمقام هنا مقام تذكير وإرشاد وليس تعليم وتحصيل وتأصيل.
أسأل الله عز وجل أن ينفع بما قيل، وأن يغفر لنا الزلل والخطأ والتقصير، اللهم لك الحمد على نعمة الإيمان، ولك الحمد على نعمة التوحيد، ولك الحمد على ما أنعمت به علينا من نعم تترى، اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا من بيده ملكوت السماوات والأرض! اللهم احفظ أمننا وإيماننا، اللهم احفظ توحيدنا، اللهم احفظ عقيدتنا في قلوبنا ونفوسنا، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام، وأراد هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين بسوء اللهم فاجعل كيده في نحره، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم اجعل تدبيرهم تدميراً عليهم، اللهم اكفناهم بما شئت فإنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز! اللهم اهد أهل البدع والضلالات، اللهم اهدهم إليك وردهم إليك رداً جميلاً، اللهم افتح على قلوبهم، اللهم أرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه، وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه.
اللهم يا قوي يا عزيز اللهم قوِ إيماننا وأعنا على أنفسنا، اللهم أصلح ولاة أمورنا، اللهم وفقهم لما تحبه وترضاه، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم وفقهم وأعنهم لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين.
اللهم يا حي يا قيوم! مُنَّ علينا بتوبة صالحة صادقة تمحو بها فساد قلوبنا، وتصلح بها نفوسنا، اللهم أصلح أزواجنا، وأصلح أولادنا، وأصلح بناتنا، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم أنت ولي ذلك والقادر عليه، اللهم لا تحرمنا أجر هذا المجلس، اللهم لا نخرج من مجلسنا هذا إلا وقد قلت لنا بمنك وفضلك يا كريم: قوموا مغفوراً لكم، اللهم اغفر لنا وتب علينا لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.