[من أحوال الأنقياء]
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذه ليلة الأحد الموافق للرابع من شهر ذي الحجة لعام (١٤١٤هـ) وفي هذا المسجد المبارك في مدينة الرس، وقبل أن أبدأ في موضوعي الذي بين يدي أوجه الشكر الجزيل لجماعة هذا المسجد، وحقيقة أننا نعترف لهم بالعرفان الجميل ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل؛ فإننا نسمع عن نشاطاتهم وأعمالهم الخيرة ومنتدياتهم وملتقياتهم، فنسأل الله جل وعلا أن يبارك فيها وأن يجمع قلوبهم وأن يوفق ويسدد خطاهم، وأتمنى لمساجد أحياء هذه المدينة وغيرها من المساجد أن تحتذي بحذوهم وشكر الله لهم سعيهم.
أيها الأحبة: فعنوان هذا اللقاء وهذا الموضوع هو: (الأنقياء) أو إن شئت فقل: (سلامة الصدر مطلب) وهذا الموضوع هو ثالث ثلاثة، فقد سبقه درس بعنوان: (الأخفياء) وسبقهما درس آخر بعنوان: (الأتقياء) .
وإن كان درسا الأتقياء والأخفياء منبعهما هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) ، كما تقدم بيانه في الموضوعين السابقين؛ فإن أصل هذا الموضوع -أيضاً- هو حديث أخرجه ابن ماجة في سننه في كتاب الزهد باب: الورع والتقى، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (قيل: يا رسول الله! أي الناس أفضل؟ قال صلى الله عليه وسلم: كل مخموم القلب صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال صلى الله عليه وسلم: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد) .
قال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات.
والحديث أيضاً أخرجه الطبراني في معجمه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب وفيه زيادة، وذكره الألباني في الصحيحة وصحيح الجامع.
ومعنى مخموم: من خممت البيت إذا كنسته، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث أن النقي هو: الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد.
فقلت في نفسي وأنا أتدبر هذا الحديث: ما أحوجنا لمثل هذا النقي في مثل هذا الزمن الذي اتصف بكثرة الخلاف والنزاع والفرقة، فامتلأت النفوس وأوغرت الصدور، فلا تسمع إلا كلمات التنقص، والازدراء، وسوء الظن، والدخول في النيات والمقاصد! فما هي النتيجة؟!
إن خوطبوا كذبوا أو طولبوا غضبوا أو حوربوا هربوا أو صوحبوا غدروا
على أرائكهم سبحان خالقهم عاشوا وما شعروا ماتوا وما قبروا!
فالنتيجة أن أصبح المسلمون أحزاباً {كُلُّ حِزْب بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:٥٣] وكل حزب من الآخر ينتقصون، فلا نسمع سوى تقسيم الناس وتصنيفهم، ففرح المنافقون وهم لها باذرون وساقون وراعون، وصدق الله عز وجل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:٤٦] .
وأستغفر الله أن أعم، ولكنها فتنة وبلاء طمت وعمت، فأقول: ما أحوجنا لمثل هذا النقي، فأخذت أقلب صفحات السير والتراجم للوقوف على حياة أولئك الأنقياء وتتبع أحوالهم وصفاتهم، فوجدت العجب! ومن العجب الذي وقفت عليه أن من صفاتهم أنهم حرصوا -رضوان الله تعالى عليهم- على تنقية قلوبهم من الحقد والحسد.
فالأنقياء لا يعرفون الانتقام ولا التشفي، ويتجاوزون عن الهفوات والأخطاء.
الأنقياء: يتثبتون ولا يتسرعون.
الأنقياء: سليمة قلوبهم نقية صدورهم.
الأنقياء: يحبون العفو والصفح وإن كان الحق معهم.
الأنقياء: ألسنتهم نظيفة فلا يسبون ولا يشتمون.
الأنقياء صفاء في السريرة ونقاء في السيرة، دعاؤهم: اللهم قنا شح أنفسنا، اللهم قنا شح أنفسنا، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:٩] .
وستقرأ كثيراً من المواقف التي تبرهن على ما أقول، ولكن خاطب النفس وقل لها:
ويحك يا نفس احرصي على ارتياد المخلص
وطاوعي وأخلصي واستمعي النصح وعي
واعتبري بمن مضى من القرون وانقضى
واخشي مفاجأة القضا وحاذري أن تخدعي!
ويحك يا نفس احرصي على استماع القصص
وطاوعي وأخلصي للواحد الصمد