للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[وصف أهل الأهواء والآراء الفاسدة والتحذير من شبهاتهم]

لقد أحسن ابن القيم رحمه الله تعالى حين وصف أمثال هؤلاء بقوله عن المحاذير التي يقعون فيها قال: المحذور الرابع: تلاعبهم بالنصوص وانتهاك حرماتها، فلو رأيناهم وهم يلوكونها بأفواههم وقد خلت بها المثلات، وتلاعبت بها أمواج التأويلات، وتقاذفت بها رياح الآراء، واحتوشتها رماح الأهواء، ونادى عليها أهل التأويل في سوق من يزيد، فبذل كل واحد في ثمنها من التأويلات ما يريد.

وصدق رحمه الله ماذا لو كان في عصرنا الآن وهو يقرأ ماذا يكتبه بعض أصحاب الأقلام، أو يتحدث به بعض أصحاب الأفهام عبر وسائل الإعلام.

ويقول أيضاً رحمه الله: فلا إله إلا الله والله أكبر! كم هدمت بهذه المعاول من معاقل الإيمان، وثلمت بها حصون حقائق السنة والقرآن، وكم أطلقت في نصوص الوحي من لسان كل جاهل أخرس ومنافق أرعن إلى أن قال: فلو رأيت ما يصرف إليه المحرفون أحسن الكلام وأبينه وأفصحه وأحقه بكل هدى وبيان وعلم، من المعاني الباطلة والتأويلات الفاسدة، لكدت تقضي من ذلك عجباً وتتخذ في بطن الأرض سرباً، فتارةً تعجب وتارةً تغضب وتارةً تبكي وتارة تضحك، وتارةً تتوجع لما نزل بالإسلام، وحل بساحة الوحي ممن هم أضل من الأنعام إلى آخر كلامه.

فإذا كانت هذه هي شكوى ابن القيم لشطار زمانه، فما الظن بزماننا هذا الذي أصبح المرء يمسي فيه على حال، ويصبح وقد رأى حالاً أخرى أوجع وأبشع، فإلى الله المشتكى وهو المستعان وعليه التكلان.

أيها الإخوة! اسمعوها وعوها ورددوها وافهموها: إن دين الإسلام قائم على تسليم العبد المطلق للوحي، فلا يغرنكم من قلّت معرفته بالوحي وتعلق بالشبهات، وأخذ يلبس على الناس الحق بما في قلبه وذهنه من باطل وضلالات، فضل وأضل، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من هذا الصنف فقال فيما ترويه عائشة رضي الله عنها: (فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) .

وقال صلى الله عليه وسلم: (سيكون في آخر أمتي ناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم) كما في مقدمة مسلم في صحيحه.

وتواترت أقاويل أئمة -السلف- في التحذير من الشبهات وأصحابها، فقال عمر: [إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله] .

وقال أبو قلابة: [لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تحادثوهم، فإني لا آمن أن يغمروكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون] .

ويقول ابن سيرين محذراً: [إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم] .

فانظروا عباد الله! عمن تأخذون دينكم، أمن كتاب الله، وحديث رسول الله، وفهم أولياء الله، ممن قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) ، أم من الفضائيات والمجلات، والكتابات المليئة بالضلالات والشبهات، ممن قال الله فيهم: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:٨] .

سبحان الله! ماذا يريد هؤلاء؟ هل هو الجهل بالإسلام وضعف الإيمان؟ أم الهوى وحب الأتباع والشهرة؟ أم هو الإعجاب بأهل الضلال والفلسفة والكلام؟ أم تعظيم العقل والفكر؟ أو الغرور والكبر؟ نعوذ بالله من الشر كله دقه وجله.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [لا تجالسوا أهل الأهواء، فإن مجالستهم ممرضة للقلب] فكيف بمن يجالسهم الساعات أمام الشاشات، ويقرأ لهم الكتب والمقالات؟ فكيف سيسلم له دينه؟ وكيف سيستجيب لربه وخليله؟ يقول تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:٥٠] .

وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله) كما في المعجم الكبير للطبراني وحسنه الألباني.

وكثير من الناس اليوم أصبح إلهه هواه فكان عبداً للهوى.

نعم.

أيها الإخوة! اسمعوها جيداً، كثير من الناس اليوم أصبح إلهه هواه فكان عبداً للهوى، فهو لا يأخذ من الدين إلا ما يحب ويترك ما لا يحب، نقول له: قال رسول الله، ويقول: لكنّ فلاناً قال، وما يزال يتتبع قول فلان وفلان حتى لا يبقى له من دينه شيء.

سبحان الله! فكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله، كما قال الإمام مالك رحمه الله: وما أكثر هؤلاء، بل إن من الناس من نقول له: قال الله وقال رسوله، ويقول: قال الآباء، أو قال الشيوخ والأمراء! {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة:١٠٤] .

ولله در ابن عباس حيث يقول: [أيها الناس! توشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟] .

وقال عمر بن عبد العزيز: [لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم] .

وقال الشافعي: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس.

شرط قبول السعي أن يجتمع فيه إصابة وإخلاص معا

لله رب العرش لا سواه موافق الشرع الذي ارتضاه

وكل ما خالف للوحيين فإنه رد بغير مين

وكل ما فيه اختلاف نصبا فرده إليه قد وجبا

فالدين إنما أتى بالنقل ليس للأوهام وحدس العقل

فانظر أخي! أين أنت من هذا المفتاح العظيم؟ أسأل الله أن يفتح عليّ وعليك بالاتباع وبالإخلاص.

<<  <  ج: ص:  >  >>