للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[أخفياء ولكن!]

يكثر في هذا الزمن الأخفياء، ولكنهم أخفياء من نوع آخر، أخفياء يختفون عن أعين الناس، ويحرصون كل الحرص ألا يطلع أحد من الناس على أعمالهم.

هؤلاء الأخفياء هم الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً، فيجعلها الله عز وجل هباءً منثوراً) نعوذ بالله! يقول راوي الحديث ثوبان رضي الله تعالى عنه: (يا رسول الله، صفهم لنا، جلهم لنا، ألا نكون منهم ونحن لا نعلم!) .

اسمع ثوبان الصحابي الجليل هو الذي يقول: (ألا نكون منهم ونحن لا نعلم) !! فرحمك الله يا ثوبان ورضي الله تعالى عنك! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) .

أخرجه ابن ماجة من حديث ثوبان بسند صحيح.

وأخفياء من نوع آخر، وهم المقصرون الفاترون، أهل الخمول والكسل، فلو أنك نصحت أحدهم وصارحته بحاله وسألته عن أعماله، فقلت له مثلاً: ماذا حفظت من القرآن؟! وهل تحرص على صيام النوافل أم لا؟! أنت تريد الخير بنصحه وتريد مكاشفته بحاله حتى يرى حاله على حقيقتها، فتسأله هذه الأسئلة ليجيب هو على نفسه، وتقول له: ماذا قدمت للإسلام؟! وهل تنكر المنكرات؟! وهل وهل إلى غيرها من الأسئلة التي تبين حقيقته أمام نفسه؛ لأجابك هذا الشخص بقوله: هذا بيني وبين الله!! وهل كل عمل أعمله لا بد أن أطلعك عليه؟؟!! انظر هو الآن يظهر لنا الإخلاص، لكنه يخفي الحقيقة ما هي الحقيقة؟! أنه قصّر في أعماله وأنه قد لا يكون عنده شيء، ولا حفظ من القرآن شيئاً وإن حفظ فالقليل، قد لا يكون قدم للإسلام شيئاً وإن قدم فالقليل القليل، وهو يستحي أن يصارح الآخرين بهذه الأعمال التي هي لا شيء حقيقة، فبالتالي لا يملك حتى يبرئ ساحته في هذه اللحظة إلا أن يقول لك: هذا بيني وبين الله، وهل كل عمل أعمله لا بد أن تطلع عليه؟!! فانظر كيف وقع هذا المسكين، أظهر لنا الإخلاص وأخفى حقيقة النفس وتقصيرها، فوقع في الرياء من حيث لا يشعر، وما أكثر أولئك وللأسف، وهذا لا شك خداع للنفس، وتشبع بما لم يعط، وهكذا التصنع والتزين والتظاهر.

أما الحقيقة التي أخفاها اليوم فإنه لا يستطيع أبداً أن يخفيها {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:١٨] فنعوذ بالله من حالهم، ونستغفر الله لحالنا.

ويقول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، واسمع لكلام المحدث الملهم رضي الله تعالى عنه وأرضاه، يقول: [فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله] .

ذكر ذلك ابن القيم في إعلام الموقعين.

<<  <  ج: ص:  >  >>