[الخوف والأوهام]
السبب الخامس: الخوف والأوهام: فالخوف أكل قلب الرجل الصفر، أكل قلوب الكثيرين وهم أحياء، فهم يرون ما يجري لبعض الدعاة، ولأجل هذا تعطلت الأعمال بزعمهم وتوقفت الدعوة، فهو يخاف على نفسه تارة، وعلى ولده وعلى عمله، وربما ظن أن كل الناس يراقبونه ويلاحقونه، وهكذا تستمر الأوهام والتخيلات حتى وقع فريسة لها وقعد عن العمل.
ونحن نقول: نعم.
إن طريق الدعوة إلى الله مليء بالعقبات والأشواك، ولولا والله هذه العقبات وهذه المعوقات لشككنا في طريقنا، ولكن أن نعطل أعمالنا ونحسب كل صيحة علينا ونغلق كل الأبواب حتى وإن كانت مفتوحة فلا، بل هي والله وسوسة شيطان، اسمع لقول الحق عز وجل: {إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٧٥] وإذا سمع المؤمن أقوال المثبطين الخائفين ذكر قول الحق مباشرة: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:١٧٣] .
ورحم الله أصحاب تلك الهمم العالية يوم أن كانوا يطلبون الموت ويبحثون عنه في كل ساحة.
أخرج النسائي في (كتاب الجنائز باب الصلاة على الشهداء) من حديث شداد بن الهاد (أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزوة، غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبياً فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قسمته لك، قال الأعرابي: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى ها هنا -وأشار إلى حلقه- ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى ها هنا فأموت فأدخل الجنة) الله أكبر! هكذا كانوا يطلبون الموت رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم (ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى ها هنا فأموت فأدخل الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟ قالوا: نعم.
قال: صدق الله فصدقه، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته، ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته -أي: في دعائه-: اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقتل شهيداً، أنا شهيد على ذلك) والحديث صحيح كما قال الألباني في صحيح النسائي.
وانظر إلى تأثير بنات المحدث الثقة عاصم بن علي بن عاصم أحد شيوخ الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما، ومن أقران شعبة بن الحجاج، وكيف صبر في محنة الإمام أحمد وتقوى على الثبات عندما كتبت إليه بناته بتثبيته على الحق، اسمع ماذا قلن البنات، اسمعي أيتها المرأة! كيف تكون الصالحة معينة لزوجها الصالح؟ قالت البنيات: يا أبانا! إنه بلغنا أن هذا الرجل أخذ أحمد بن حنبل فضربه على أن يقول القرآن مخلوق، فاتق الله ولا تجبه، فو الله لئن يأتنا نعيك أحب إلينا أن يأتينا أنك أجبت.
ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه.
فأي أثر ستبقيه هذه الكلمات في نفس عاصم بن علي؟ إن هذه الكلمات لم تأت من فراغ، بل من تربية جادة على الهمة العالية والغاية المنشودة.
فأين نحن من ذلك مع أزواجنا وأولادنا وبناتنا؟ إن همة بعضهم لا تتعدى شهوات الدنيا ولذاتها، فأي تربية هذه التي يعيشها المسلمون مع أولادهم وبناتهم وأنفسهم؟ -والله المستعان-.
قال ابن القيم رحمة الله تعالى عليه:
واحمل بعزم الصدق حملة مخلص متجرد لله غير جبان
واثبت بصدرك تحت ألوية الهدى فإذا أصبت ففي رضا الرحمن
والحق منصور وممتحن فلا تعجب فهذه سنة الرحمن
لكنما العقبى لأهل الحق إن فاتت هنا كانت لدى الديان