[هضم النفس مهما بلغت من الصلاح]
الأثر الخامس والأخير من آثار هذا السر العجيب في حياة أولئك الرجال: هضم النفس والإزراء عليها مهما بلغت من الصلاح.
وانتبه! لأن هذه آفة كادت تعصف بكثير حتى من الصالحين والأخيار: العُجب والغرور بالعمل.
أما أولئك الرجال فكانوا يتصفون بهذه الصفة: الإزراء على النفس وازدرائها مع ما كان فيها من صلاح.
سبحان الله! إذا كانوا يهضمون أنفسهم ويزدرونها وهم أولئك الذين سمعنا أفعالهم وصفاتهم في أول الحديث، فماذا نقول نحن إذاً عن أنفسنا؟! إن كثيراً من أهل الخير والصلاح ومن عامة الناس غفل قلبه حتى ظن أنه يذكر ولا يذكر، ويحدث ولا يحدث، وأنه ليس بحاجة إلى موعظة وتذكير فلا يسمع، وإن سمع فللانتقاد والملاحظات، ولا يقرأ وإن قرأ فللتدريس والتعليم.
ولاشك أن هذا آفة كما ذكرنا، فمن آثار استشعار مراقبة الله جل وعلا عند أولئك الأخيار وأولئك السلف أنهم عرفوا حقيقة أنفسهم، مع ما بلغت من فعل الخيرات والصلاح.
ولذلك اسمع للإمام الذهبي عندما يقول عن الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى: هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه، كان سفيان رضي الله عنه من شدة تعلقه بالآخرة واستيلاء همها عليه، فكأنه جاء منها فهو يحدثك عنها رأي العين.
ويقول أبو نُعيم: كان سفيان إذا ذكر الموت لم يُنتفع به أياماً.
ويقول ابن مهدي: كنا نكون عنده فكأنما وقف للحساب.
- إني إخاف الله: واسمع -أيضاً- لذلك الموقف الآخر الذي ذكره لنا صلى الله عليه وآله وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله! قال في إحدى الصور: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال) اسمع! (ورجل) بما جعل الله فيه من حب للنساء، (دعته امرأة) المرأة تدعوه، لم يذهب هو ليبحث عنها لم يسافر من أجلها لم تداعب أنامله أرقام الهاتف حتى يصيد فريسته، إنما المرأة تدعوه.
(ذات منصب) حتى إذا افتضحت الجريمة فهي كفيلة بأن تلملمها، وأن تستر على هذا الرجل بمنصبها.
(وجمال) والمرأة ذات جمال، وقلوب الرجال تهفو إلى الجمال.
إذاً فظروف الجريمة مهيأة من جميع الجوانب، فما الذي يردك أيها الرجل؟! ما الذي يرد هذا الرجل اسمع: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال -فتأتي الإجابة- فقال: إني أخاف الله) .
مهما كانت الظروف، ومهما تيسرت السبل، فإني أخاف الله.
ولذلك كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:
كنا قلادة جيد الدهر وانفرطت وفي يمين العلا كنا رياحينا
كانت منازلنا في العز شامخة لا تشرق الشمس إلا في مغانينا
فلم نزل وصروف الدهر ترمقنا شزراً وتخدعنا الدنيا وتلهينا
حتى غدونا ولا جاه ولا نسب ولا صديق ولا خِلّ يواسينا
واسمع لكلمات ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه تحقيق الإخلاص، في صفحة [٤٨] عندما قال: يا قوم! قلوبكم على أصل الطهارة، وإنما أصابها رشاش من نجاسة الذنوب، فرشوا عليها قليلاً من دموع العيون وقد طهرت، اعزموا على فطام النفوس عن رضاع الهوى، ذكروها مدحه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:٣٠] عرفوها اطلاع من هو أقرب إليها {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:١٦] ؛ لعلها تستحي من قربه ونظره، {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:١٤] {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:١٤]- إن الله يراك! راود رجل امرأة في فلاة ليلاً فأبت، فقال لها: ما يرانا إلا الكواكب، فقالت المرأة: ولكن أين مكوكبها؟! أكره رجل امرأة على نفسها وأمرها بغلق الأبواب، فقال لها: هل بقي باب لم يغلق؟ قالت: نعم.
الباب الذي بيننا وبين الله تعالى! فلم يتعرض لها.
انظر إلى القلوب يوم أن كانت رقيقة، إذا خوفت بالله خافت.
كان الصالحون رضوان الله تعالى عليهم من السلف الصالح إذا أراد أحدهم أن ينصح أخاه أو يذكره قال له: اتق الله! إن الله يراك.
كانت هذه الكلمة كفيلة بأن تفعل الأفاعيل في قلب صاحبها: (إن الله يراك!) .
ولذلك يقول ابن رجب: رأى بعض العارفين رجلاً يكلم امرأة فقال: إن الله يراكما، سَتَرَنا الله وإياكما.
كأن رقيباً منك يرعى خواطري وآخر يرعى ناظري ولساني
فما أبصرت عيناي بعدك منظراً لغيرك إلا قلت قد رمقاني
ولا بدرت من فيَّ بعدك لفظة لغيرك إلا قلت قد سمعاني
ولا خطرت من ذكر غيرك خطرة على القلب إلا عرّجا بعناني