للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[رمضان والإنفاق]

الصورة الثانية: رجلٌ وسع الله عليه بماله، وحسن سمته، ودماثة خلقه، فهو ينفق إنفاق من لا يخشى الفقر، بحثت عنه عصراً من رمضان، توجهت إلى محلاته فلم أجده، سألت عنه فلم أجد جواباً، غير أن أحد العاملين قال: ربما وجدته في الجامع، دخلت الجامع فوجدت العجب، وجدت الموائد ممدودةً بالطول والعرض، حتى أنك لا تجد مكاناً لموضع قدميك، وفيها ما لذ وطاب من أنواع المأكولات والمشروبات، بحثت عن صاحبي فوجدته يصول ويجول، لحظاتٌ قبل الغروب، فإذا بمئات العمالة تتوافد على الجامع من كل صوب ألفاً أو يزيدون، قلت: سبحان الله! في الوقت الذي انشغل أهل الأموال ببيعهم وشرائهم، فعصر رمضان موسمٌ تجاريٌ لا يعوض، أما هذا الرجل فهو في تجارة أخرى، تجارة مع الله، فلم يكفه أن دفع المال لتفطير الصائمين، بل وقف بنفسه وعمل بيده، ولم يعتذر يوم أن دعي للإنفاق في مشروع ثان، بل وفي مشروع ثالث، وربما في رابع وخامس وعاشر، مما لا نعلمه ولكن الله يعلمه.

عندها ذكرت حديث أبي كبشة عمرو بن سعد الأنماري، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاثةٌ أقسم عليهن، وأحدثكم حديثاً فاحفظوه؛ ما نقص مال عبد من صدقة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

حدثت صاحبي والأنس والبشر على محياه -يعلم الله- ما فقدت الابتسامة على وجهه يوماً من الأيام، الجميع يشهد له بالفضل والإحسان، والورع وحسن الخلق وكثرة العبادة، هكذا نحسبه ولا نزكي على الله أحداً، خرجت من الجامع بصعوبة بالغة لكثرة المتوافدين من الصائمين والمساكين، خرجت وأنا أردد عند الغروب: اللهم تقبل منه، اللهم وسع عليه بماله وولده، اللهم بارك له وزده، وأعطه ولا تحرمه.

فإن لم يكن هذا من الفائزين برمضان فمن أيها الأحبة؟! هل هم أولئك الذين يكنزون الأموال، ويقبضون أيديهم؟! عندها ذكرت قول الحبيب صلى الله عليه وسلم لـ أسماء بنت أبي بكر: (لا توكي فيوكي الله عليك) -أي: لا تمنعي ما في يديك فيقطع الله عليك مادة الرزق، وذكرت قول الملكين اللذين ينزلان في كل صباح (فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) كما في الحديث المتفق عليه، وذكرت قول الحق عز وجل كما في الحديث القدسي: (أنفق يا بن آدم ينفق عليك) وهو متفق عليه، فقلت في نفسي: الموفق من وفقه الله، مع علمي أن هناك من تذهب نفسه حسرات أن لو كان يملك لينفق ويتصدق، ولكنه لا يجد أو يجد القليل القليل فينفقه، مع أنه أحوج الناس إليه.

وبعضهم يسمع هذه الفضائل فلا يجد ما يتصدق به سوى الدمعة تسيل على الخدين أن لو كان ذا مال فيتصدق، عندها ذكرت قول الحق عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:٩١-٩٢] اللهم اجعلنا وإياهم من الفائزين برمضان، ومن عتقائك من النار برحمتك يا رحيم يا رحمن.

<<  <  ج: ص:  >  >>