[من منهج السلف في تلقي العقيدة عدم الاقتصار على جزء من النص دون الآخر]
النقطة الخامسة: أن السلف رضي الله تعالى عنهم إذا جاءوا إلى النصوص الشرعية لا يقتصرون على جزء دون الجزء الآخر، بل يأخذون النصوص الشرعية كاملة، فإذا جاءوا إلى نصوص شرعية آيات أو أحاديث لا يأخذون بجزء منها ويغضون الطرف عن الجزء الآخر، لا، بل يأخذون الجميع.
فمثلاً: الخوارج فرقة من الفرق، والمرجئة فرق من الفرق وجدت في الزمن القديم، ولا زال لها امتداد في الزمن الحاضر، هذه الطائفة أو تلك الطائفة كل منها أخطأت في مسألة الأخذ بالنصوص، فأخذوا جزءاً وأغفلوا النظر عن جزء آخر.
فالخوارج مثلاً قالوا: ثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردل من كبر) فهذا قلب الإنسان مليء بالإيمان، لكن عنده شيء يسير جداً من الكبر، فمعنى هذا أن هذا الإنسان لا يدخل الجنة، لكن السرقة، والزنا، والقتل كل ذلك أكبر من شيء يسير من الكبر، فمعنى هذا أنه لم يدخل الجنة، إذاً معنى هذا أنه في النار، وأنه كافر، فكفروا الناس بناءً على هذه القاعدة.
وجاءت طائفة أخرى - المرجئة - وقالوا: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان) يعني: القلب كله فسق وفساد ومعصية إلا نقطة واحدة من إيمان؛ فإنه لا يدخل النار، قالوا: إذاً الحمد لله قلوبنا فيها إيمان أكثر من مثقال ذرة فلنفعل المعاصي والمنكرات والسيئات إلى غير ذلك.
أما السلف فجاءوا بالنص هذا وبالنص هذا وجمعوا بينهما فقالوا: إن حديث الكبر فيه دلالة على التحذير من غلظ الكبر، وأنه من الذنوب الخطيرة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن الإنسان الذي في قلبه جزء بسيط من الكبر إن لم يتعرض لنفحة من نفحات مغفرة الله فإنه سيعذب في النار بقدر ذنبه، ثم يدخل الجنة؛ لأنه لا يخلد في النار مسلم.
وعلى نفس مذهب المرجئة: كثيراً ما يحصل الإرجاء في مجالسنا، فمثلاً: تجد مجموعة من الناس يتحدثون عن فلان ابن فلان من الناس غيبة، فيأتي شخص ويقول: يا جماعة! اتقوا الله، حرام عليكم، هذه غيبة، قالوا: يا أخي! إن الله غفور رحيم، هذا إرجاء، هذا هو منهج المرجئة تماماً، وهي فرقة خارجة عن منهج أهل السنة والجماعة.
فعندما يقولون: إن الله غفور رحيم، فلماذا يقطعون النص ويأخذون جزءاً منه ويتركون الباقي؟! إن الله غفور رحيم وإن الله كذلك شديد العقاب، والله سبحانه وتعالى توعد الذين يغتابون عن طريق آيات ونصوص عن المصطفى عليه السلام كثيرة، ومع ذلك فأنت أغفلت النظر إلى هذه النصوص وأخذت بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:١٧٣].
كذلك أحياناً من الإرجاء - وهذا يحصل أحياناً مع الكبار، ومع علية القوم أو الكبار - أن يأتي بعض الناس أو بعض المشايخ أو بعض طلبة العلم أو غيرهم يقولون: شرب الخمر معفو عنه مع الإيمان فإن الصحابة شربوا الخمر، وكان هناك رجل اسمه حمار، كان يشرب الخمر دائماً، وكان يؤتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يجلدونه، وسبه أحدهم؛ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوه، فإنه يحب الله ورسوله) وهو مدمن يشرب الخمر دائماً.
وعبد الرحمن بن عمر بن الخطاب شرب الخمر في مصر، وكذلك مثلاً يروون أن هناك صحابة زنوا كـ ماعز، والغامدية، هؤلاء زنوا ومع ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن هؤلاء في بحبوحة الجنة).
فتجده يأتيه بالنصوص التي فيها وعد وتركيز على العفو والمغفرة، ويترك النصوص التي فيها وعيد وفيها تشديد على من يفعل هذا الفعل، وهذا يعد كذلك من الإرجاء.