[عرض تاريخي لبعض مراحل اليهود]
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد الأمين، وعلى آله، وأصحابه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين حديثنا في هذا اللقاء سيكون عن عدو، وهذا العدو تميز بميزة أساسية هي الدوام والاستمرار، وقد يخطر على البال أنه العدو الدائم إبليس أو الشيطان، وهذا يوصف بهذا الوصف فهو عدو دائم مستمر، وعدو لصيق للجميع بلا استثناء ولكن الحديث لن يتطرق إلى هذا النوع من الأعداء، بل سيكون عن عدو يسمع به الكثير في هذه الأيام: إنهم اليهود.
نسمع كثيراً عن كلمة السلام الدائم مع اليهود، فعندما نأتي بكلمة العدو الدائم نجد أن هذه الكلمة تضاد هذه الكلمة بشكل كلي، فأيهما أولى بالأخذ؟ وأيهما أولى بالصواب؟ هذا ما ستتحدث عنه الحقائق، وما ستطرقه الوثائق التي سأشير إلى بعض منها، مع ملاحظة أن الحديث عن هذا العدو الدائم حديث طويل ويحتاج إلى عرض متواصل؛ لأن العرض الموجز والقصير قد لا يعطي الموضوع حقه، وحسبي أنني سأشير إلى بعض الوثائق، وسأعرض لبعض الحقائق فقط، وأحاول أن أنتقي منها ما يهم، وما يفهم، وما يُعرف عند البعض.
أقول وبالله التوفيق: إن موضوع هذه المحاضرة سيشتمل على وقفات: الوقفة الأولى أستطيع أن أسميها مقدمة، أو تمهيد، أو تقعيد، أو قاعدة لما سأشير إليه بعد ذلك، ثم الوقفة التي تليها وقفة متعلقة ببعض الحقائق والوثائق عن هذا العدو، ثم بعد ذلك أختم بقصيدة جميلة كتبها أحد الطلاب وهي من القصائد التي ربما لم تُسمع قبل ذلك باعتبار أنها جديدة.
فأقول أيها الأحبة الكرام! فيما يتعلق بالتمهيد: لكي نفقه ونفهم الحديث عن هذا العدو لا بد أن نفقه جذوره، وأسسه وأصوله، وهذا أمر تاريخي متشعب الأركان، وبالتالي لا يمكن أن نستعرضه مفصلاً، إنما سأعطي لمحات.
إن إبراهيم عليه السلام عندما جاء من منطقة حران في العراق إلى الشام بعد أن نجاه الله من النمرود تناسل أبناؤه، وكان حفيده يعقوب عليه السلام ممن استقر في فلسطين، ويعقوب عليه السلام رُزق بأبناء، ومن هؤلاء الأبناء يوسف عليه السلام الذي حقد عليه إخوته، ثم أُلقي في الجب -في البئر- ثم انتقل إلى مصر عبداً رقيقاً، ثم تطور به الأمر إلى أن صار ملكاً حاكماً، ثم بعد ذلك جلب أباه وإخوته إلى مصر، وتملك مصر وتناسل إخوته وأبناؤه وكونوا تجمعاً قوياً في مصر، وكان الحكم بأيديهم، ثم زالت دولتهم وضعف شأنهم وعاد الملك مرة أخرى إلى الفراعنة.
وهؤلاء الفراعنة كانوا يحسدون يوسف ويحسدون إخوة يوسف، فقلبوا ظهر المجن لهم وكانت النتيجة أن استعبدوهم، فصار الفراعنة يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:٤٩] واستمر الأمر على هذا المنوال، وبنو إسرائيل يعيشون في ذلة وفي مهانة إلى أن استنقذهم الله سبحانه وتعالى ببعثة موسى عليه السلام.
وعندما بُعث موسى إليهم دعاهم أولاً قبل أن يدعو الفراعنة، وطلب منهم أن يعودوا إلى الله سبحانه وتعالى، فهل يا ترى استقبلوا هذا المنقذ الذي أراد أن ينقذهم من وهدة الذلة والمهانة إلى قمة العزة والنصر؟ لقد جابهوه مجابهة غريبة وعجيبة، ثم اتجه موسى بعد ذلك إلى دعوة فرعون، ولكن النتيجة كانت السخرية والاستهزاء، ونتج عن ذلك خروج موسى عليه السلام من مصر ومعه بنو إسرائيل، وهلك فرعون وملأ فرعون وجميع من معه من جنده في البحر.
وذهب موسى متجهاً إلى منطقة الشام متجاوزاً صحراء سيناء، وعندما خرج هؤلاء القوم إذا بهم يقابلون قبيلة من البدو الرحّل في سيناء، وكان هؤلاء البدو يعكفون على أصنام لهم يسجدون لها ويخضعون، ويستنجدون ويستغيثون بها، فبنو إسرائيل عندما رأوا نجاتهم وهلك عدوهم ورأوا الآية العظمى التي جاءت مع موسى -العصا- ورأوا أثرها في فلق البحر وجعله يبساً، ثم هلاك فرعون أمام أعينهم لم يسجدوا لله شكراً وتذللاً، بل قالوا له: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:١٣٨] وكأنهم لا رب لهم، ولا إله لهم، ولا خالق ولا معبود فيطلبون من موسى المخلوق الضعيف أن يجعل لهم إلهاً وأن يوجد لهم رباً، فعاتبهم موسى وصبر عليهم.
ثم اتجه بهم ووعدهم بنصر عظيم وخير عميم في فلسطين، ولكن هناك عقبة كئود موجودة أمامهم، وهي مدينة من مدن الجبارين، وهذه المدينة كما ذكر بعض العلماء هي مدينة أريحا الآن، فلكي يتجاوز هؤلاء القوم هذه المنطقة إلى وسط فلسطين لا بد من اجتياز منطقة أريحا، فماذا قالوا له؟ هل قالوا له: هلم لنقاتلهم، ومن يُقتل منا فهو شهيد ومن يبق فهو منتصر؟ لا، وإنما قالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:٢٤] وهذه غاية في الذلة من هؤلاء القوم.
فكانت النتيجة أن حكم الله عليهم بالتيه أربعين عاماً يتيهون في صحراء سيناء، كانوا ينامون في الليل في الصحراء، فإذا استيقظوا قالوا هذا الطريق فيتجهون معه، فإذا ناموا واستيقظوا ضاعت معالم طريقهم؛ لأن المنطقة صحراوية والرياح شديدة فتضيع المعالم وتضيع الآثار، فيعودون من نفس الطريق الذي جاءوا منه، فصاروا يدورون في هذه المنطقة أربعين سنة.
فعاشوا عقاباً في مصر بذلة الفراعنة وإهانتهم لهم، وعاشوا شظف عيش عجيب في صحراء سيناء، فهل هذه التربية القاسية أعطتهم دروساً وعبراً في الرجوع إلى الله؟ أم جعلتهم يزدادون عتواً ونفوراً؟ هذا ما سنعرفه بعد قليل.