اتجه مسلمة بن عبد الملك رحمه الله تعالى القائد الأموي المشهور ومعه جيش قوي قوامه أكثر من مائة وعشرين ألف جندي إلى بلاد الروم؛ ليفتتح عاصمة الروم القسطنطينية آنذاك والتي تسمى اليوم اسطنبول، وتقع الآن في الشمال الغربي من تركيا، وكانت هذه العاصمة عاصمة قوية جداً، وقد استعصت على مسلمة بن عبد الملك ولم يستطع أن يفتحها، ولكن الله يسر فتحها على يدي محمد الفاتح القائد العثماني المظفر.
وعندما اتجه مسلمة بن عبد الملك إلى القسطنطينية كان في طريقه مجموعة كبيرة من المدن والقرى والمناطق الشاسعة التي يمتلكها النصارى ففتحها مدينة مدينة، وبلدة بلدة، ثم توقف عند حصن كان ذا بنايته قوية، وحصانة شديد، وجنوده كثيرون ومدربون وأشداء، فبدأ الجيش الإسلامي في الحصار واستمر الحصار فترة من الزمن ولكنه لم يسقط! وحينها حاول مع مجموعة من البنائين أن يحفروا حفرة في هذا الحصن، ومعلوم أن الحصون القديمة من طين، فحفروا فتحةً يدخل منها الرجل أو الرجلان، ولكن من الشجاع القوي الذي يدخل من هذه الفتحة ويقاتل ويقاتل إلى أن يصل إلى الباب ويفتحه، فهذا عمل لا يستطيع أحد أن يفعله إلا الشجعان الذين باعوا حياتهم لله تعالى، فصاح مسلمة فيهم من منكم يستطيع أن يدخل على هؤلاء فيفتح لنا إن قدر له الله النجاة؟ فقال أحدهم: أنا وهذه الحادثة تكرر شبيه لها في حصار اليمامة التي تقع على مقربة من الرياض الآن أو قريبة من منطقة الجبيلة والعينية؛ فقد حدثت هناك معركة قوية جداً عندما قام خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه ومعه الصحابة ومن معهم بحصار مسيلمة في حديقته المحصنة المسورة، فاستعصت عليهم وما استطاعوا أن يفتحوها، فقام البراء بن مالك أخو أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ضعوني على ترس وارفعوني إلى الأعلى وسأقفز عليهم وأقاتلهم إلى أن أفتح لكم، وفعلاً قفز على جدار الحديقة ثم نزل عليهم كالصاعقة وبدأ يقاتل ويقاتل ويحارب ويضرب مع كل اتجاه إلى أن وصل إلى الباب ففتحه ثم دخل المسلمون وقضوا على جند مسيلمة، وكانت النتيجة أن البراء بن مالك لم يبق في جسده منطقة إلا وفيها طعنة أو ضربه أو جرح أو غير ذلك حتى إن الصحابة مكثوا شهراً كاملاً يمرضونه نتيجة لذلك، فقد أبدى رضي الله عنه بطوله عجيبة غريبة نفتقدها في هذا الزمان.
فعندما صاح مسلمة وقال: من منكم يستطيع أن يدخل على هؤلاء فيفتح لنا؟ فقام رجل وقال: أنا، فدخل النقب وقاتل وضارب مع كل اتجاه حتى وصل إلى الباب ففتحه فاستسلم أهل الحصن وسلموا أنفسهم، حينها قام مسلمة وقال: أين صاحب النقب؟ فلم يقم أحد، فالكل رفض أن يعرف بنفسه، فقال مسلمة: إن بابي مفتوح وأنا أقسم على صاحب النقب أن يأتيني، فأدرك صاحب النقب بعد هذا القسم أنه لا بد أن يبر بهذا القسم، وفي يوم من الأيام كان مسلمة بن عبد الملك بن مروان الأموي جالساً في خيمته وإذا برجل يستأذن يريد أن يقابله، فقيل له: أنت صاحب النقب؟ قال: لا، أنا سأخبركم من هو، قال: ادخل، ثم قال: تريد مني أن أخبرك عن صاحب النقب؟ قال: نعم، قال: سأخبرك من هو ولكن بشروط ثلاثة -فكانت هذه الشروط هي العبرة-، فقال: أولاً: ألا تذكر اسمي للخليفة، والثاني: ألا تسألني عن اسمي، الثالث: ألا تأمر لي بمكافأة، قال: لك علي ذلك، قال: أنا صاحب النقب، فطأطأ مسلمة رأسه عجباً، فخرج صاحب النقب واختفى بين الجند لا يعرف له حال ولا يعلم له صفة، وكان مسلمة رحمه الله كلما صلى في صلاته وسجد وكان قريباً من ربه بدأ يدعو: اللهم اجعلني مع صاحب النقب، اللهم اجعلني مع صاحب النقب، اللهم اجعلني مع صاحب النقب؛ لأن هذا الرجل لا يريد بعمله جزاءً ولا شكوراًً، وإنما يريد الجزاء الأوفى عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان مسلمة كلما تذكر صاحب النقب بدأ يدعو ويبكي؛ لأنه عرف أن في المسلمين أناساً لا هم لهم إلا العمل لخدمة هذا الدين ولخدمة هذه الأمة بصمت، فيحمل أحدهم همّ هذا الدين بصمت مستشعراً مسئولية حمل هذا الدين على عاتقه، لكنه يعمل بصمت، وهذا هو المطلوب منا، وهي العبرة التي ينبغي أن نستقيها ونحن نعمل لهذا الدين، ونجتهد في أن نقدم له وندعو إليه ساعين إلى نكثر سواد الأمة؛ لأن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، فالنصر لا يمكن أن يأتي إلا بقاعدة قوية صلبه تستطيع أن تطيح بالباطل وتقضي عليه وتحل محله.