ثانياً: أهداف المنهج العقلاني
المنهج العقلاني منهج لم يمت، بقي حياً قبل عهد المأمون إلى زماننا هذا، لكنه يتعرض للمد والجزر بحسب حالات معينة، ويظهر أحياناً ويبرز بقوة، ويتدلس أو ربما يتوقف أو يصاب بالبيات فترةً من الزمن، ولعلنا في هذا الزمن نعيش فترة بروز وانتشار له كما سنعرف بعد قليل.
من أهداف هذا المنهج في القديم والحديث: الهدف الأول: رفض الفقه وتمييع الإجماع، يقولون هؤلاء الذين أجمعوا وأفتوا في المسألة الفلانية، هل هم أنبياء؟ لا، هل هم ملائكة؟ لا، هل المسألة جاءت من الله سبحانه وتعالى؟ لا، إذاً: جاءت عمن؟ عن الإمام أحمد؟ عن الإمام أبي حنيفة؟ عن الشافعي عن الثوري عن الأوزاعي؟ إذاً: هم رجال، ونحن رجال، فلماذا يفرضون علينا آراءهم ومسائلهم الفقهية، فنحن نأتي بالأحكام، كما أتى هؤلاء بالأحكام.
فهم لا ينظرون إلى قضية الخلفية العلمية، والدراسة العميقة للقضايا الفقهية، إنما ينظرون إلى قضية أن هؤلاء علماء لهم عقول، ونحن لنا عقول فقط، أما القضايا الأخرى فلا ينظر إليها.
فترتب على ذلك مدارس الرأي، فكل واحد يأتي برأي من عنده ويعتبره حكماً يدين به، وقالوا: إن الفتاوى غير محكورة على أحد، فمن أراد أن يفتي أفتى.
ولذلك في هذا الزمن، تجد أناساً ليسوا بالعلماء بل أشكالهم وسلوكهم وتصرفاتهم بعيدة كل البعد عن سلوك العلماء ومناهجهم، ولعلكم تقرءون في بعض المجلات أو الجرائد أنهم يصدرون فتاوىً في قضايا مصيرية للأمة، لا أقول: قضايا جزئية، بل قضايا مصيرية للأمة، ولا داعي لذكر النماذج في هذه المسألة.
الهدف الثاني: الانفتاح الفكري عن طريق الأخذ من المصادر المختلفة، كما أخذ أسلافهم المعتزلة من الفكر اليوناني ومن الهنادكة، ومن الفرس ومناهجهم، كذلك العقلانيون المعاصرون يريدون الانفتاح على الغرب، ويأخذون منه كل شيء.
ولذلك تجد أن الفكر العقلاني المعاصر -كما سنعرف من النماذج- يأخذ من الغرب كل شيء، حتى القوانين الوضعية والأفكار الفلسفية والفتاوى المتعلقة في الشئون الحية الخاصة والعامة والأحوال الشخصية، فتجد بعضاً ممن يدعو إلى الإسلام ويحمل رايته يدعو إلى الاحتفال بالقانون السويس أو إلى الأخذ بالقضايا الفلانية، في القانون الفرنسي، وهكذا.
الهدف الثالث: الهجوم على الخلافة، وهم لا يريدون الخلافة التي تتم عن طريق الانتخاب أو البيعة أو بطريقة معروفة، إنما يريدون نشر ما يسمى بالديمقراطية، وحكم الشعب للشعب، والناس ينتخبون من شاءوا، فيأتي الفاسد والصالح والطالح، ويتساوون في الحكم على الشخص، كأن تأتي برجل ساقط ليس له قيمة في المجتمع، بل إنه ضار جداً على المجتمع بفساده وضياعه وضلاله ومخدراته وفسقه، وتقارنه تماماً بنفس المنزلة برجل يملك أعلى المؤهلات العلمية، فصوت هذا هو صوت هذا في انتخاب ذلك الرجل، وهذه هي الديمقراطية المزيفة المرفوضة التي لا يقرها الإسلام.
لكن العقلانيين يدعون إليها ويحاولون إحياءها على أنها منهج إسلامي، ويؤصلون بذلك كتباً ومؤلفات.
الهدف الرابع: تمييع الجهاد فمسألة الجهاد العسكري عند أهل العقل مرفوضة، فليس هناك شيء اسمه جهاد العدو، بل العالم كله قرية واحدة ودولة واحدة، ولا بد أن يعيش باطمئنان، وليس هناك شيء اسمه عقائد مختلفة، إنما هناك اختلاف في وجهات النظر، من الممكن أن تقترب هذه الوجهات أو تبتعد بحسب الحوار.
ولذلك تجدهم يدعون إلى الحوار بين الأديان، وإلى عقد المناظرات بين الأديان، حتى يتفق على دين مستقل، وآخر صيحات العقلانيين في هذا الزمن ما دعوا إليه عن طريق إيجاد دين مشترك يسمى الدين الإبراهيمي بين الإسلام واليهودية والنصرانية، وهذا ناتج عن لقاءات متتابعة، عقدت في عدة دول عربية وأوربية.
إذاً: هم يريدون تمييع الجهاد؛ لأن الجهاد في هذه الحالة يترتب عليه أن يتكتل المسلمون على منهج واحد، ويتكتل النصارى على منهج، واليهود على منهج، ثم تقوم المعارك، مع العلم أن هؤلاء لا يعلمون أن هذا تمييع، لكن بالنسبة لليهود والنصارى انتصار، لأنهم عندما يرون المسلمين بهذا الوضع في تمييع الجهاد، فإنهم سيبدءون في غزوهم والدخول عليهم من جميع الأبواب المتاحة.
وهذا ما هو مشاهد في هذا الزمن.
الهدف الخامس: مسائل الاختلاط والحجاب، فلا يوجد عند العقلاني مسائل مرتبطة بالحفاظ على الستر والحجاب وما يتعلق بالاختلاط وغيرها، بل هي مسألة عادية، تعد من الأحوال الشخصية التي تخضع للمتغيرات الزمنية، وليست مربوطة بالمنهج الشرعي، بل هي مربوطة بالمنهج الذوقي، فإذا كان الأمر يتطلب أن تغطي المرأة وجهها غطت المرأة وجهها.
وإذا كانت المسألة لا تتطلب وليس هناك مجال للفتنة فلا داعي لذلك، وإذا كان الاختلاط فيه فتنة وستؤذى المرأة فلا تختلط، وإن لم يكن هناك فتنة فلا بأس أن تختلط، فالمسألة مسالة ذوقية، راجعة إلى التصرف الشخصي فقط لا غير.
وهذا -كما ذكر بعض من رد عليهم- ترتيب تدريجي للوصول إلى أهداف إلغاء ما يسمى بالحجاب والستر، ونشر السفور والاختلاط داخل المجتمع المسلم مسايرةً للمنهج الغربي.
لأن الغرب كانوا يقولون لهم: إنكم أنتم مقلدون ولا تحكمون عقولكم، فكأن هؤلاء يقولون: لا نحكم عقولنا لكن التقاليد تضغط علينا، فنريد أن نتدرج في مسألة رد هذه التقاليد خطوة خطوة.
الهدف السادس: إباحة الربا، وإباحة الربا مأخوذ من مسألة النظام الاقتصادي العالمي؛ لأن هذا أمر يتطلبه الوضع الاقتصادي، والحياة قديماً حياة ساذجة وبسيطة، ومنزوية داخل مجتمع صغير، أما الآن فلا.
فالعالم كله متشابه، والاقتصاد كله متداخل، وبالتالي لا تستطيع إلا أن تعايش هذا المجتمع ومن سبل المعايشة إباحة الربا.
إذاً: ستجد في نهاية المطاف من خلال هذه الأهداف أن المجتمع العقلاني وعلماء العقلانية يدعون إلى السير في ركاب الغرب تماماً.
ويدعون إلى الأخذ بالمنهج الغربي، ويضفون عليه طابع أنه منهج عقلي.