[عرض تاريخي لنشأة اليزيدية]
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن هذا الموضوع سيدور فيه النقاش حول فرقة من الفرق التي ظهرت منذ أمد بعيد، ومرت بأطوار متفاوتة مختلفة.
ومن أبرز هذه الأطوار الطور الذي بدأ يبرز في هذا الزمن نتيجة للصحوة التي تعيشها الديانات في مختلف اتجاهاتها، بالإضافة إلى الصحوة التي تعم النحل داخل عموم الديانات، فلا تكاد تجد ديانة إلا وقد ظهر فيها نوع من الصحوة ونوع من الرجوع إلى دينها.
فالنصرانية لديها صحوة بينة، واليهودية كذلك، والشيعة كذلك، والتصوف كذلك إلى آخر هذه السلسلة.
ومن هذه الفرق أو هذه الطوائف أو -إن صح التعبير- هذه الديانات ديانة اليزيدية، هذه الديانة التي تنتسب إلى الإسلام نسبة فقط، ولكنها في الأصل بعيدة كل البعد عن دين الله سبحانه وتعالى.
ولكي تتضح صورتها بشكل بين تحتاج إلى بعض العرض التاريخي لنعرف كيف نشأت هذه الطائفة.
إن الأمويين بدأ ملكهم وبدأ حكمهم منذ تنازل الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، وذلك أن المصطفى عليه السلام قال: (إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).
فبدأ الحكم الأموي من سنة أربعين أو إحدى وأربعين للهجرة، واستمر الحاكم أو الخليفة الأول معاوية بن أبي سفيان مدة، ثم بعد ذلك انتقل الحكم وراثياً إلى ابنه يزيد بن معاوية، ثم إلى معاوية بن يزيد الذي تنازل عن الحكم، وبعد ذلك تقلد عبد الله بن الزبير مقاليد الأمور وهو ليس بأموي.
وقام البيت الأموي بمحاربة عبد الله بن الزبير ابتداءً من مروان بن الحكم ثم ابنه عبد الملك الذي أعاد للملك الأموي سيادته مرة أخرى، ثم استمر الحكم الأموي إلى آخر عهده في وقت مروان بن محمد بن مروان بن الحكم الذي يسمى بـ مروان الجعدي.
هذا الرجل استمر حاكماً فترة من الزمن، ولكن الحكم العباسي بدأ يظهر ويبرز بقيادة رجل من دعاة الحكم العباسي، وهو أبو مسلم الخراساني الذي قاد جيشاً لجباً قوياً جداً فاتجه هذا الجيش القوي لمجابهة الجيش الأموي بقيادة مروان بن محمد الجعدي.
فالتقى هذان الجيشان في معركة الزاب الكبير في العراق، وانتهت هذه المعركة بهزيمة قاسية للجيش الأموي، وهرب مروان بن محمد من منطقة الحرب إلى الشام، ثم هرب إلى مصر، ثم هرب إلى السودان، ثم قتل هناك.
بعد أن اندثر البيت الأموي تولى العباسيون الحكم سنة (١٣٢هـ) وكان من أبرز المهام التي قاموا بها مسألة القضاء على كل أثر للبيت الأموي، أي: القضاء على أي رجل ينتسب إلى الأمويين بصلة النسب.
فكانوا يقتلونهم قتلاً شنيعاً مريعاً مخيفاً، فكان الأمويون يختفون منهم في جميع الأماكن ويهربون إلى أطراف الأرض، وكان ممن هرب من هؤلاء رجل يدعى إبراهيم بن حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، واختفى في جبال شمال العراق، وهي بلاد الأكراد الآن، وهي عبارة عن مناطق جبلية شاهقة، وبدأ في تأسيس الدعوة لمجابهة الحكم العباسي.
والحكم العباسي وجد في العراق كذلك، لكنه في أواسط العراق، أما في الشمال فكانت مناطق صعبة نائية ليس من ناحية المسافة، لكن من ناحية صعوبة الوصول إليها، وبالتالي بدأ إبراهيم هذا الدعوة لإعادة الحكم الأموي مرة أخرى.
وواجه بعض الصعوبات، وواجه كذلك بعض الموافقة من قبل البعض، فضم إليه مجموعات من الناس وأيدوه وساهموا معه في ذلك.
ووجد أن هؤلاء الناس الذين انضموا إليه لا يمكن أن يتم كسبهم من الناحية السياسية، فأراد أن يستفيد من الجوانب الدينية لتحريك الناس باعتبار أن العاطفة الدينية عند الناس أقوى بكثير من العاطفة السياسية، بل كثير من الناس ربما لا تحركهم العواطف السياسية، لكن لو حرك من الناحية الدينية لثار وتحرك خدمة لهذه العاطفة.
فادعى بين الذين أيدوه أنه هو السفياني المنتظر، وقد ثبت في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: أن هناك رجلاً سفيانياً يخرج في آخر الزمان يكون له أثر معين، وذكرت آثار كثيرة عنه.
فقال: إنه هو السفياني الذي ذكر في النصوص الشرعية، وسمي بالسفياني -بناءً على تفسيره- نسبة إلى أبي سفيان بن حرب، وأبو سفيان بن حرب هو جد لـ إبراهيم بن حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وبالتالي فهو المقصود بذلك، وفعلاً كان لهذه الدعوة نوع من التأثير الديني العاطفي داخل القبائل في ذلك المكان.
استفاد إبراهيم من دعوته استفادة عادية، بمعنى: أنه حكم على هؤلاء، وربما استفاد منهم من ناحية الجاه والسلطة والمال وغير ذلك، لكن لم يستطع أن يوسع الملك باعتبار أن الحكم العباسي كان في بداياته، وكان قوياً جداً خاصة في وقت السفاح وأبي جعفر المنصور وغيرهم من الخلفاء كـ المهدي والهادي وهارون الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم، كل هؤلاء الذين جاءوا في أوائل الحكم العباسي كانوا أقوياء للغاية وكانت جيوشهم قوية، وبالتالي فلم يكن له أي إمكانية للانتشار.
ومع ذلك فإن الحكم العباسي لم يسكت عن هذه الدعوة فوجه إليها الجيوش المستمرة، وفعلاً تفرق هؤلاء تفرقاً تاماً وزالوا من الناحية المعنوية.
أما من ناحية البقاء فلهم وجود وتجمع قبلي، ولا يزال حب البيت الأموي ممثلاً في إبراهيم بن حرب؛ وكذلك يزيد بن معاوية؛ لأن إبراهيم بن حرب بن خالد بن يزيد ينتسب إلى خالد بن يزيد بن معاوية، ومعاوية بن أبي سفيان.
ويزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد الثالث هؤلاء يشكلون جانباً من البيت الأموي.
والجانب الآخر يمثله مروان بن الحكم ومن جاء من بعده إلى آخر الخلافة الأموية، فلدينا الآن جانبان من الحكم.
فـ إبراهيم بن حرب يرى أن خالد بن يزيد الذي هو جده قد غمط حقه فلم يعط إمكانية الحكم، وأخذ الحكم منه مروان بن الحكم، وبالتالي أراد أن يعيد لأسلافه المكانة التي كانت لهم بأن يؤسس لنفسه حكماً، وينسب هذا الحكم إلى رجل برز من خلال البيت الأموي الأول وهو يزيد.
فـ معاوية أكثر بروزاً، لكن يزيد كان مجابهاً لحرب شعواء من قبل فئات متعددة من الناس، من أبرزهم العباسيون الذين كانوا يرون في الأمويين جملة وتفصيلاً أنهم هم الأعداء الأول بالنسبة لهم.
وكذلك الشيعة والرافضة بشتى أصنافهم كانوا يرون في يزيد عدوهم الأول الذي في وقته تم قتل الحسين بن علي بن أبي طالب ومن معه من أبنائه وإخوته وغير ذلك.
فكانوا يسبونه، وكان سب يزيد ولعنه من أبرز مناهج الشيعة، ولا تكاد تجد شيعياً وإلا وسب يزيد عنده من أصول الدين.
كذلك رأى هؤلاء أن الخوارج يرون في يزيد بن معاوية عدواً لهم؛ لأن في وقته كان هناك نوع من القتال ضد الخوارج.
إذاً: كان إبراهيم بن حرب يرى أن العباسيين والخوارج والشيعة كلهم يلعنون يزيد بن معاوية، فأراد أن يبرز يزيد بوجه مخالف للوجه المنتشر بين الناس، فبدأ يطلق على نفسه أو على حكمه أنه الحكم اليزيدي أو حكم الدولة اليزيدية نسبة لـ يزيد بن معاوية.
ثم استمر إبراهيم بن حرب فترة من الزمن وتوفي، وبعد أن جاءت الجيوش العباسية فرقت هؤلاء شذر مذر، فاستمر هؤلاء يتوارثون محبة الأمويين في الجملة ويزيد خاصة، واستمروا فترة من الزمن إلى أن بدأ الحكم العباسي يضعف شيئاً فشيئاً، وبعد أن ضعف وجد في تاريخ اليزيديين رجل هو عدي بن مسافر بن إسماعيل الأموي، وهو رجل ينتسب كذلك إلى يزيد بن معاوية.
ولد الرجل سنة (٤٦٧هـ)، وبدأ في إعادة الدولة اليزيدية إلى كيانها مرة أخرى، وفعلاً بدأ الناس يتجمعون على عدي هذا ويحبونه، بل ويقدسونه، بل ويؤلهونه كما سيأتي، ثم تجمع هؤلاء جميعاً وتكونت الدولة اليزيدية مرة أخرى.
نحن الآن نسير في النطاق السياسي ولم ندخل بعد إلى النطاق الشرعي، بمعنى: أن قضية نشأة اليزيدية كانت نابعة من الجانب السياسي على أرجح الأقوال، وهناك أقوال أخرى ستأتي.
فبعد أن توفي عدي بن مسافر تولى من بعده ابن أخيه ثم ابن أخيه، ثم بعد ذلك جاء رجل آخر اشتهر بأنه عالم وعنده علم ومعرفة، فحكم فترة من الزمن، ثم ادعى أنه طلب من قبل الإله فاختفى عنهم لمدة ست سنوات، ثم جاء إليهم بعد أن قام بجولة في أرجاء الأرض وأرجاء السماء كما يدعي هو.
ثم جاء إليهم بمجموعة كبيرة من المؤلفات والكتب التي فيها تحصيل لعقائد وأفكار وشرائع، وقال: هذه التي أعطانيها الإله، وجعلها لكم عقائد وديانة، فآمنوا بها واعتقدوها.
ثم بدأ التطور يأتي إليها شيئاً فشيئاً، ثم بعد أن مات هذا الرجل تولى من بعده مجموعة خلفاء، وبدأ الضعف يتوالى عليهم شيئاً فشيئاً إلى أن أصيبوا بحالة ركود وخمود، واستمر هذا الركود فترة طويلة تتجاوز الستمائة سنة إلى أن بدءوا يظهرون في هذا القرن.
في الوقت الحاضر بدءوا يظهرون ويعيدون أنفسهم، وذلك في بدايات القرن التاسع عشر، وتجمعوا سوياً وكونوا لأنفسهم منهجاً، ثم بدءوا بفتح فروع دعوية لهم في العراق، وأول ما بدءوا في كركوك، ثم في الموصل، ثم في مناطق السليمانية وغيرها في مناطق الأكراد، ثم بعد ذلك اتجهوا إلى بغداد، ثم اتجهوا إلى البصرة، ثم انتقلوا إلى فتح مكاتب دعوية لهم في سوريا وفي تركيا وفي إيران، وكل هـ