[القسم الأول كفر التكذيب والجحود]
كما في قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت:٦٨]، فهذا تكذيب وجحد.
والتكذيب والجحود ينقسم إلى قسمين اثنين: القسم الأول: تكذيب ذات الشيء الذي ورد إليه.
والقسم الثاني: جهة التكذيب.
فجهة التكذيب تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: اعتقاد كذب الرسل.
فيعتقد أن الرسل ليسوا على صواب، وأنهم كذبة، وأنهم جاءوا لمصلحة ذاتية ولأمر شخصي وغير ذلك، وهذا قليل؛ لأن الرسل أول ما يأتون يبينون أنهم لا يريدون أجراً، ولا يريدون غنيمة، ولا يريدون متاعاً، ولا ملكاً، ولا سلطاناً ولا غير ذلك، وكما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن زعماء قريش أتوا إليه وقالوا له: إن كنت تريد مالاً جعلناك أكثرنا أموالاً، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك، وإن كنت تريد نساء أعطيناك، فقال: لا.
إذاً: هو لا يريد إلا تبليغ الدعوة، لذلك هذا الأمر جعل الناس لا يكذبون بالرسل؛ لأنهم يعرفون أن الناس يهدفون إلى مصالح شخصية، أما الرسل فلا يريدون إلا طاعة هؤلاء ليس لهم، ولكن لله سبحانه وتعالى.
القسم الثاني: التكذيب باللسان مع إقرار القلب.
تجده يكذب بلسانه لكن قلبه مقر بذلك، وعلى رأس هؤلاء كما عرفنا مسبقاً فرعون، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:١٤]، فهو مكذب جاحد، تكذيبه تكذيب جحود، جحد برسالة موسى بلسانه، لكن قلبه مؤمن بها ومقر بها.
وكذلك قوم ثمود: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس:١١]، كذب هؤلاء بما جاءهم رسولهم عليه السلام من الأمر والنهي، فكذبوا ظاهره ولكن إيمانهم الباطني ثابت.
وكذلك ما ثبت عن قريش أن الله سبحانه تعالى قال عنهم: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:٣٣]، ولذلك ثبت عن أبي جهل أنه قال: كنا نحن وبنو هاشم كفرسي رهان، فكانوا ينفقون وننفق، وكانوا يفعلون ونفعل، وكانوا وكانوا والآن لهم نبي فمن أين لنا ذلك؟! إذاً: القضية ليست قضية تكذيب كلي، بل تكذيب ظاهري، أما الباطني فقد كان هناك إقرار ثابت لذلك الأمر.
أما جهة المكذب به، فينقسم إلى قسمين: القسم الأول: تكذيب أو كفر عام كامل، كمن يجحد جميع فروض الدين، يجحدها كاملة بلا استثناء، أو أن يجحد شيئاً معيناً، كأن يجحد فرضاً، أو يحلل حراماً، أو يحرم حلالاً، أو يجحد صفة من الصفات أو غير ذلك، فهذا يعتبر كذلك كافراً كفراً أكبر اعتقادياً مخرجاً من الملة، فتجده مثلاً يمشي على منهج الإسلام لكنه يحلل الربا، ولا يوجد شيء اسمه ربا، ففي هذه الحالة هو كذب أمراً معلوماً من الدين بالضرورة في القرآن وفي السنة، بما لا يتطرق إليه شك، وبالتالي يكون هذا الرجل قد كذب من ناحية جهة المكذب به تكذيباً جحودياً، فيكون قد كفر كفراً اعتقادياً، أما من كذب شيئاً أو أنكر شيئاً من باب التأول أو الجهل أو غير ذلك، فهذا ربما يلتمس له العذر حتى يتبين له الأمر، كما ثبت عن الأشاعرة مثلاً أنهم يتأولون بعض الصفات، أو ينكرون بعض الصفات مع أنها ثابتة في القرآن، وليس إنكاراً عن علم، لكنه إنكار عن جهل أو إنكار عن تأول أو غير ذلك، فهؤلاء الناس لا يعاملون معاملة الكافرين، لكن يلتمس لهم العذر حتى توضح لهم الحجة.
وكذلك ما ثبت في صحيح البخاري ومسلم أن رجلاً كان مسرفاً على نفسه إسرافاً عجيباً، وعندما أحس بدنو أجله، قال لأهله: إذا أنا مت فحرقوني، ثم خذوا رمادي وذروه في البحر، فلعل الله لا يقدر علي.
فهنا جحد قدرة الله سبحانه وتعالى؛ لأنه قال في نفسه: أنه إذا مات وأحرق وطحن ثم ذروه في البحر ضاع رماداً، فعند ذلك أمر الله سبحانه وتعالى بكل شيء أن يجمع ما سقط فيه ثم أحياه، فسأله: ما الذي دعاك إلى ذلك؟ فقال: خوفك يا رب! فهو جحد القدرة، لكن الجحود هنا ليس جحود تعمد، بل جحود تأول، وبالتالي فقد غفر الله سبحانه وتعالى له كما ثبت ذلك في البخاري.
وكذلك ما ثبت عن الإمام الشافعي أنه قال: ناظروا القدرية في العلم، الذين يقولون: إن الله لا يعلم الأمور إلا بعد أن تحصل، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا.
إذاً: هم جاحدون أصلاً، لكن لا يثبت عليهم الكفر إلا بعد أن تقوم عليهم الحجة، فقال: ناظروهم بالعلم إن أقروا به خصموا وانتهت القضية، وإن جحدوا انطبق عليهم كفر التكذيب والجحود، وذلك من باب التكفير في مسألة المكذب به في فرض معين أو في مسألة معينة.