[من منهج السلف في تلقي العقيدة عدم محاكمة النصوص إلى العقل]
النقطة السادسة: أن السلف ما كانوا يأتون إلى النصوص الشرعية فيحاكمونها إلى العقل، وهذا امتداد للنقطة التي ذكرناها في ما يتعلق بعدم التعارض بين النقل والعقل.
أهل السنة لا يأتون إلى النصوص الشرعية ويأخذون النص الشرعي، ثم يحاكمون النص الشرعي بناءً على العقل، يعني: لا يأتون إلى النص ثم يبدءون في دراسته عقلاً، فإن وافق العقل أخذوا به، وإن عارض العقل وجهوه توجيهات مختلفة.
فأهل العقل أصلوا قضايا عقلية عن طريق التلقي من الفكر الغربي اليوناني أو الروماني أو غيرها من الأفكار، ثم بعد ذلك جاءوا إلى القرآن والسنة، وبدءوا يدرسون ما في القرآن والسنة، فإن وافق العقل انتهت القضية، لكن إن عارض العقل ما هو الحل؟ الحل: أن يبقى ما في العقل على أصله ولا يغير، ولكن النص الشرعي هو الذي يغير؛ ولذلك غيروا آيات الصفات، وغيروا آيات الأسماء تأويلاً وتحريفاً وتغييراً وتبديلاً كالمعتزلة والجهمية والأشاعرة والكرامية والكلابية والماتريدية، وكثير من الطوائف غيروا بناءً على هذه القاعدة.
إذاً: هذه القاعدة تخرج عدداً كبيراً من الفرق من المنهج السليم، وبالتالي لا يبقى إلا من سار على المنهج الصحيح وهم قلة.
والأمثلة على هذه النقطة كثيرة، وأضرب مثالاً لعله قد يكون فيه بعض الصعوبة: أهل العقل والمعتزلة على رأسهم قالوا: إن الإنسان هو الذي يخلق الشر، الله سبحانه وتعالى يقول: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٦].
فيقول هؤلاء: إن الإنسان هو الذي يخلق الشر، والله هو الذي يخلق الخير على منهج المجوس، إذاً: هذا قولهم أصلوه في عقولهم.
ثم جاءوا بآيات القرآن فعرضوها، وإذا بآية تعارض هذا الفكر، وهي قول الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:١ - ٢] أمرنا الله أن نتعوذ من الشر الذي خلقه الله، ومن هذا الشر ما ذكر في بقية السورة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:١ - ٢] هل هذه تعارض فكرهم أو توافقهم؟ تعارضه؛ لأنهم قالوا: إن الإنسان هو الذي خلق الشر، والله ما خلق الشر، الذي خلق الشر هو الإنسان فقط، لكن الآية تقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:١ - ٢] أي: إن الله هو الذي خلق الشر، فماذا فعلوا؟ قاموا وحرفوا الآية، فقالوا: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:١] (من شرٍّ ما خلق) جعلوا (ما) هنا نافية بدلاً من أن تكون موصولة! إذاً: حرفوا النص حتى يوافق ما ذهبوا إليه، وهناك حادثة طويلة أذكر خلاصتها وهي أن عمرو بن عبيد -وهو من زعماء المعتزلة المشهورين- عارضته سورة المسد، وهو في ذهنه أفكار تتعلق بالقضاء والقدر، فعارضته هذه السورة؛ فأراد أن يحرفها ويغير فيها، فعجز وما استطاع؛ ولذلك ورد عنه أنه قال: وددت لو أحك سورة المسد من المصحف.
لماذا؟ لأنها عارضت فكره المنحرف.
أما السلف الصالح فلا، لا يأتون إلى نصوص عقلية يجعلونها في أذهانهم، ثم يأخذون نصوص الشرع ويحكمونه، لا، وإنما يأخذون نصوص الشرع فيجعلونها في أذهانهم، ثم بعد ذلك يأتون إلى المسائل العقلية، فإن وافقت فبها ونعمت، وإن عارضت ممكن أن توافق النصوص فيما بعد، ممكن أن يعرفها غيرنا، إنما النص الشرعي هو المقدم.
أما النص العقلي فهذا أمر غير مقبول إذا كان هناك تعارض وهمي، والأصل أنه لا تعارض بين نقل صحيح وعقل صريح.
هذا ما سمح به الوقت في عرض جزء من منهج السلف في تلقي العقيدة، ونخلص من ذلك إلى: أن السلف رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم هم من سار على هذا المنهج من لدن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأن من خالف هذا المنهج فإنه يبتعد عن منهج السلف بمقدار هذه المخالفة.
فهناك أناس خالفوهم مخالفة تامة، فخرجوا حتى عن مسمى الإسلام تماماً، ككثير من فرق الصوفية وفرق الرافضة وغيرها، وفرق الجهمية وغيرها، والمعتزلة.
وهناك أناس وافقوا السلف في كثير من النقاط ولكنهم خالفوهم في نقاط أخر، فهم يبتعدون عن منهج السلف في وقت ويقتربون بقدر ما أخذوا من هذا المنهج، فيكون بذلك هذا المنهج هو الميزان والمقياس، وهو المعيار الذي نستطيع أن نقيس به ما نراه أمامنا من أفكار عقدية تطرح من قبل أمم أو جماعات أو فرق أو تنطوي تحت لواء الإسلام.
ونحن الآن لا نناقش في عقائد هؤلاء اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، لا، وإنما نتحدث عن كل من تسمى باسم الإسلام، وادعى أنه على المنهج الصحيح نقول: هذا هو المنهج الذي أخذ من القرآن ومن السنة، فإن ابتعدت عنه فقد ابتعدت عن منهج السلف بقدر ابتعادك عنه، وإن اقتربت منه وحققته كاملاً فأنت سائر على منهج السلف، وآخذ بطريق السلف، والله سبحانه وتعالى الموفق والهادي إلى سواء السبيل، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.