للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[قصة امرأة ذاقت مرارة العيش مع البدو]

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.

أما بعد: إن ما لدي في هذا اللقاء عبارة عن مواقف معبرة، وقصص مؤثرة، فيها الدرس والعبرة والأسلوب والتجربة، فهي قصص من الحياة، ودروس من الواقع، وأنتم تعلمون أن الحياة مدرسة، والواقع تربية، وهي قصص معاصرة، تطرق قضايا مستجدة ومسائل جديدة، ربما لم تسمع هذه القصص من قبل، لكنني سمعتها، وبعضها قرأتها، بل وبعضها عايشتها.

هذه القصص أيها الأحبة! موجهة للجميع، للكبار وللصغار، للشيب وللشباب، بل وللنساء وللفتيات، هذه القصص أيها الأحبة الكرام! لا أطرقها للتسلي، ولا نستمع إليها للتزاور، إنما أريد مني كمتحدث ومنك أيها المبارك كمستمع أن تستجلي منها الدرس والعبرة في مجالات حياتك التربوية، والدعوية، وفي مجالات حياتك المختلفة، فإن القصة أيها الحبيب! من أفضل وسائل التربية، ومن أفضل وسائل الحث على سلوك الطرق المختلفة أياً كانت هذه الطرق، ولعلك تعلم أن القرآن الكريم قد ركز كثيراً على القصص واهتم بها، وبين هذا الأمر بشكل مفصل وموجز، مطول ومختصر، ولا يخفى عليك قصص الأنبياء وقصص من خالف الأنبياء، ماذا كان حالهم؟ بل وقد استغل الأعداء القصة في سبيل دعم باطلهم، وأنت ترى المسلسلات والأفلام والمسرحيات والروايات ما هي إلا قصص، ومع ذلك فهي تفعل في الشباب على وجه الخصوص ما تفعله النار في الهشيم.

أيها الأحبة! لا نطيل عليكم، وأبدأ بالموقف الأول، الموقف الأول: موقف عايشت بعضه، وشاركت في بعض جزئياته، وهي قصة -حقيقة- لم تستمع من قبل، وفيها العجب، فيها دروس غريبة، وفيها مواقف عجيبة.

في أحد الأيام اتصلت بي امرأة وهي تبكي بل وتشتكي، وتحس أن قلبها يتفطر، وتكاد أن تموت، وتتمنى أن تبتلعها الأرض، هذه المرأة أيها الأحبة! تسألني وتقول لي: ما حكم الانتحار؟ قلت لها: لا يجوز، هذا أمر محرم، قالت لي وهي تبكي: ابحث لي عن مخرج، أريد أن أنتحر، أريد حكماً شرعياً بأي صورة من الصور؛ لأقطع سبيل حياتي، ومن حب الاستطلاع أردت أن أشاركها المأساة، فطلبت منها أن تشرح لي بعضاً من واقعها، فقالت لي الواقع التالي: توفي أبي وأمي في حادث سيارة، ولم يبق لهم إلا أنا، فكفلني عمي، جلست عنده فترة من الزمن وأنا أذوق الأمرين، كنت خادمة، بل أقل من الخادمة، الخادمة لها عزة، أو بعض من العزة، قد ترفض العمل فترجع إلى بلادها، أما أنا فكنت أقل من الخادمة في هذا المنزل، وكان أهل البيت يتمنون التخلص مني بأي صورة من الصور، وبأي كيفية من الكيفيات، تقول: عندما بلغت التاسعة وإذا بعمي يزوجني من ابن عمتي، شاب كبير في السن في الخامسة والعشرين وأنا في التاسعة، فضغط علي عمي إلى أن قررت أن أتزوج؛ لأن عمي يريد أن يتخلص مني، تقول: أخذني ابن عمتي ولكنه كان يعاملني معاملة الأخت، إذ كنت ألعب مع أخواته، كنت صغيرة وساذجة لا أعرف شيئاً اسمه زواج أو زوجية، وعندما بلغت الثانية عشرة أو الثالثة عشرة طلقني ولم يمسني، تقول: كانت الحياة الذهبية التي عشتها في حياتي هي الثلاث سنوات التي مرت علي، من التاسعة إلى الثانية عشرة، عندما رجعت إلى عمي كان الأمر بالنسبة لي انتحاراً بطيئاً، لقد أصيب عمي بصدمة، لقد تخلص مني وهأنذا أرجع إليه، لقد انتهت علاقته بي وها أنا أعود إليه، يا ترى ما العمل؟ تقول: انتظرت فترة من الزمن، وإذا بأناس يطرقون باباً يريدونني زوجة، لمن؟ لرجل كبير في السن يعيش في البادية وهم أهل بادية، يعيشون في منطقة تبعد عن القصيم ثلاثمائة كيلو متر تقريباً.

تقول: أنا لا أعرف من هو زوجي الجديد، ولكن الذي خطبني رجل كبير في السن، عمره يتجاوز الخمسين، وأنا لا زلت في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، تقول: عندما سمعت أن هناك زوجاً يخطبني فرحت ولم أعلم ماذا ينتظرني، تقول: وافقت على الزواج، ولكنني رأيت أن عمي قد أخذ أموالاً هائلةً مهراً لي، فاستغربت ولم أعلم ما هو السبب.

تقول: أخذني هؤلاء إلى هجرتهم أو إلى منطقتهم، وأدخلوني على زوجي في تلكم الديار النائية، كانت هجرة صغيرة مكونة من عشر بيوت تقريباً، تقول: فرأيت زوجي، لقد كان رجلاً مجنوناً بمعنى الكلمة، فمن أول ليلة دخلت عليه وإذا به يكاد أن يقتلني من الضرب، لا أستطيع أن أفعل شيئاً، لا أستطيع أن أهرب، فالمنطقة صحراوية برية، ماذا أصنع يا ترى؟ قلت: الصبر، ولعلي أن أصبر، تقول: صبرت وصبرت، ثم تحرك بطني وإذا به شاب أو غلام صغير، ألده فأفرح، وأصبر على عناء الحياة مع هذا الزوج الذي أراه مرة في الأسبوع، فإذا رأيته لم يفتأ يضربني طوال الليل، تقول: عندما جاء ابني الصغير فرحت به فرحاً شديداً، وعندما كبر هذا الابن وبلغ أربعة أشهر وإذا بطامة تأتي إلي، لقد كان لهذا الزوج أخت -عمة لهذا الطفل- ولكنها عاقر ليس لها أبناء، فقررت مع زوجي ومع إخوان زوجي أن تأخذ ابني لتتبناه، عارضت، بكيت، صحت، صرخت ولكن لا مجيب، فأخذته مني، وأقسمت يميناً ألا أراه ولا لحظة واحدة، تقول: عمر ابني هذا تسع سنوات الآن، ولم أره فعلاً ولا لحظة واحدة.

قالت: مكثت فترة من الزمن وأنا أبحث عن مهرب ولكن لا نجاة، لا ملتجأ إلا إلى الله سبحانه وتعالى، تقول: رزقت بابن ثانٍ، فتكررت العملية مرة أخرى، لقد أخذ مني ابني هذا، من الذي أخذه؟ نفس العمة المجرمة، أخذته ورفضت أن أراه مرة أخرى -أي: هذا الابن الآخر- تقول: وإلى هذه اللحظة لم أر ابني الآخر، تقول: فقررت ألا أحمل بعد ذلك، أحمل وألد لغيري، تقول: مكثت أربع سنوات وأنا أعيش عذاباً لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.

تقول: بعد ذلك قدر الله لي فحملت، وكان غلاماً ثالثاً، وتعرفون أهل البادية وللأسف الشديد يحبون الذكور محبة شديدة، ففرح هؤلاء فرحاً شديداً بهذا الغلام، وفي اللحظة التي ولدت فيها وإذا خالة لي تأتي إلى المنطقة؛ لأن لها أراضي في تلك المنطقة وتريد أن تبيعها، ففرحت فرحاً شديداً وذهبت إليها، وقلت لها: يا خالتي! إما أن أذبح نفسي، وإما أن أعود معك، فأصرت على الرفض، فأصررت على الذهاب معها، وكانت النتيجة أن وافقت، وعند السفر قال لي أهل الطفل: تذهبين بولدنا؟ لا والله، لا يمكن، فأخذوه مني بالقوة، ثلاثة أبناء ليسوا لي، تقول: عندما رجعت مع خالتي ووصلت إلى الرياض واجهت ثلاث مشاكل، أنا أذكر هذه القصة أيها الأحبة لآخذ منها درساً، أو تأخذون منها درساً، وهو أن أي إنسان يتعرض لأي مصيبة أو لأي مشكلة أو لأي ابتلاء، فليعلم أن هناك من يعيش ابتلاءً أكبر منه وأكثر منه.

تقول: عندما رجعت إلى الرياض أقسم عمي أيماناً مغلظة أن لا يستقبلني في بيته، وعندما أردت أن أسكن عند خالتي أقسم زوج خالتي أن لا أسكن في بيته، لم؟ لأنه يعيش مرحلة عداء مع عمي ومع أبي قبل ذلك، فهل يسكن عنده ابنة أعدائه؟ لا يمكن، تقول: فذهبت وسكنت عند عم آخر هو عمي الآخر وليس لي غيره، هذا العم كان أبكم لا يتكلم، فجلست عندهم فترة من الزمن، ولكن زوجته حقدت علي لا تريدني، قالت: لا نريدك بأي صورة من الصور، اذهبي، اخرجي، تقول: أين أذهب؟ فتقول لها هذه المرأة: أنت دخيلة علينا، لا نريدك عندنا أبداً، تقول: بدأت تضغط علي، تقول: والله إنني لا آكل إلا بقايا أكلهم، تقول: أخرج الأكل من زبالة المنزل وآكلها، تقول: أنام على البلاط، حتى الفراش والحصير تصادرهما هذه المرأة مني.

وهي تبكي بكاءً حاراً: لو سمحت -بلهجتها طبعاً- ابحث لي عن مجال للخروج من هذه الطامة، أريد أن أنتحر، أريد أن أموت، عمري واحد وعشرون سنة الآن أو اثنان وعشرون سنة، ولم أذق فيها طعماً للحياة أبداً.

طبعاً أنا اندهشت حقيقة وأصبت بصدمة، جلست فترة من الزمن وأنا لا أفكر إلا في وضعية هذه المرأة، طلبت منها أن تتصل بي بعد يومين أو ثلاثة، لعلي أبحث لها عن حل، وفعلاً عرضت القضية على بعض الإخوة، فكل منهم استعد بأن يبذل جهده، ولكن وللأسف الشديد، ولا زال خنجراً حقيقة يؤثر في إلى هذه اللحظة، لها عدة أشهر وهي لم تتصل، هل هي على قيد الحياة؟ هل ماتت، هل انتحرت؟ هل حلت مشكلتها؟ هل؟ هل؟ الله أعلم.

إذاً: أنا عرضت هذه القصة المؤثرة، وهذا الموقف المعبر، لكي يكون درساً لك أيها الشاب! ولك أيتها الفتاة! ولك أيها الرجل! ولك أيتها المرأة! حتى نعي أن كل إنسان في هذه الدنيا إذا تعرض لبلاء وابتلاء، فليعلم أن هناك من هو أشد منه بلاءً وابتلاءً.

<<  <  ج: ص:  >  >>