[نماذج من القائمين]
أيها الحبيب! أريد أن أقف معك وقفات أعرض لك فيها بعضاً من النماذج المختصرة الموجزة عن حال السلف الصالح تجاه قيام الليل، فبعد أن استعرضنا بعضاً من الآيات وبعضاً من الأحاديث نريد أن نأخذ صوراً نطبق فيها هذه الأصول، فقد يقول قائل: إن ما ذكرت هي أحاديث للمصطفى عليه السلام، والمصطفى عليه الصلاة والسلام مميز عن غيره من البشر.
فأجيب عليه: بأن هناك من سار على نهج المصطفى عليه السلام وطبق ذات المنهج الذي دعا إليه وانتهجه، فهذا عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما كان إذا قام في الصلاة كأنه عود من شدة الخشوع، وكان يسجد فتنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلا جذع حائط.
وصلى يوماً في الحجر فجاءه حجر كبير من منجنيق، وذلك أثناء حصار الحجاج الثقفي لمكة أيام عبد الملك بن مروان، فذهب الحجر ببعض ثوبه وأصاب شيئاً من بدنه، ومع ذلك لم يتحرك في صلاته، وما ذاك إلا لشدة خشوعه بين يدي ربه سبحانه، ويذكر من ترجم له في أمر صلاته وقيامه الليل شيئاً عجيباً، فيقولون: كان يقوم الليل بتسليمة واحدة، لا تحس فيها بأي حركة! ولا عجب فإنه يستشعر لذة وسعادة المحروم من حرمها.
وكان منصور بن المعتمر إذا ادلهم الليل وبسط جناحه المظلم على البيوت يصلي في سطح بيته، فلما مات قال غلام صغير يسكن في البيت المجاور لبيت منصور بن المعتمر: يا أماه! الجذع الذي كان على سطح آل فلان لست أراه الآن، فقد كان يظنه جذعاً واقفاً طوال الليل لا يتغير، فقالت أمه باكية متأثرة: يا بني! ليس ذلك والله بجذع، إنما ذلك منصور وقد مات.
فقد كان رحمه الله يقوم قياماً طويلاً حتى تخيله هذا الطفل هذا التخيل العجيب.
وكان رياح بن عمرو القيسي من التابعين الذين تميزوا بالثقة والعبادة والصلاة، وقد خطب امرأة اسمها: ذؤابة، وكانت امرأة عابدة صالحة، وعندما تزوج بها أراد أن يختبرها في أول ليلة تجمعهما، فلما أخذها إلى بيته وجاء الصباح رآها تعجن العجين، والمعلوم أن العروس لا تعجن العجين في العرس أو بعده بقليل، بل الأصل أن يأتي لها بأحد يعينها أو بأكل جاهز على الأقل في أول ليلة، فلما رآها تعجن العجين قال لها: يا ذؤابة، هل أحضر لك أمة؟ فقالت له: أنا يا رياح تزوجت رياحاً -رجلاً عابداً زاهداً متواضعاً- ولم أتزوج جباراً عنيداً، يأتي بإماء وخادمات، كما هو حادث هذه الأيام، فنجحت في الاختبار الأول، فلما جاء الليل تناوم رياح والأصل أنه يقوم كعادته، ولكن لابد أن يتحقق النتيجة لهذا الاختبار، فقامت ذؤابة تصلي ربع الليل الأول، فقالت: يا رياح، قم فصل، فقال: أقوم إن شاء الله وتناوم، فواصلت ذؤابة القيام إلى الربع الثاني ثم نادت: قم يا رياح! فقد انتصف الليل، فأجابها: أقوم إن شاء الله وواصل تناومه، وهكذا في الربع الثالث، حتى لم يبق إلا ربع فنادت: قم يا رياح! لم يبق إلا القليل.
فقال كمقالته السابقة، ولما اقترب الربع الأخير من الرحيل واقترب معه ظهور الفجر قالت: يا رياح قم، فقال: أقوم إن شاء الله، فقالت له: يا رياح! لقد عسكر المعسكرون، وفاز المحسنون، يا ليت شعري! من غرني بك.
وكأن ما وقع لها من زواجها به مصيبة حلت عليها أو مشكلة ألمت بها؛ لأنها رأت رجلاً نواماً وهي تريد رجلاً قواماً، وقد حسبت أن زواجها من رياح كان غرراً، وبذلك نجحت في الامتحان الذي أعده لها رياح.
وكان الداراني رحمه الله يملك أمة فباعها؛ لأنه احتاج إلى مال، وعندما نزلت في منزل من اشتراها وانتصف الليل قامت هذه الأمة بإيقاظ أهل البيت: قوموا، قوموا إلى الصلاة، فقالوا لها: هل ظهر الصبح؟ قالت: لا، لم يظهر الصبح بعد، قالوا لها: فلماذا توقظينا؟ قالت: قوموا صلوا الليل.
قالوا: نحن لا نقوم إلا لصلاة الفجر.
قالت: أعوذ بالله وهل هناك أناس لا يصلون الليل! -وهي في ذاك الزمان فكيف لو جاءت هذه الأمة في وقتنا هذا- فقالت: والله لا أبقى عندكم، فرجعت إلى الداراني وقالت: إنك بعتني إلى أناس سوء -لأنهم لا يصلون الليل- فردني جزاك الله خيراً، فردها.
ويقول الداراني رحمه الله تعالى: والله لولا قيام الليل ما أحسست بطعم الدنيا، والله إن أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، وإنه لتمر بالقلب ساعات يرقص فيها طرباً بذكر بالله سبحانه وتعالى.
وفي هذه العبارة من الجمال والروعة ما ينبغي للمرء أن يستحضرها دوماً، ثم يقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه من النعيم إنهم لفي نعيم عظيم.
وذلك مما يجدونه من لذة المناجاة، ولذلك ذكر عن بعض السلف أنه كان يكثر من الدعاء: اللهم لا تحرمني اللذتين: لذة المناجاة في الدنيا، ولذة النظر إلى وجهك الكريم في الآخرة.
اللهم لا تحرمنا اللذتين، اللهم ارزقنا لذة مناجاتك في الدنيا قائمين وقاعدين ومضطجعين، ولا تحرمنا يا ربنا لذة النظر إلى وجهك الكريم.
أيها الأحبة! كان الشيرازي أحد العباد الزهاد، وكان إذا جاء الليل يقوم ويناجي ربه قائلاً: لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا وقمت أشكو إلى مولاي ما أجد وقلت يا عدتي في كل نائبة ومن عليه بكشف الضر أعتمد أشكو إليك أموراً أنت تعلمها ما لي على حملها صبر ولا جلد وقد مددت يدي بالذل مفتقراً إليك يا خير من مدت إليه يد فلا تردنها يا رب خائبة فبحر جودك يروي كل من يرد ويظل يردد هذه الأبيات ويبكي حتى يطلع الفجر.
إنه ارتباط بالله سبحانه وتعالى وثيق وتربية رائدة، ولذلك فكل من ربى نفسه على قيام الليل فإنه في النهار يشعر بنشوة ولذة تمتد معه طوال النهار، فإذا جاء الليل قام ليأخذ زاداً مرة أخرى، فيقوم وهو نشيط، صحيح البدن، صحيح الفكر، صحيح القلب من أثر تلك المناجاة وذلك القيام، فمن لنا بهذه الصحة التي فقدناها منذ أمد بعيد؟