للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تقديم النقل على العقل]

المسألة الثالثة: تقديم النقل على العقل عند توهم التعارض، ولا تعارض بين نقل صحيح وعقل صريح.

هذه المسألة من المسائل التي ركز عليها شيخ الإسلام تركيزاً قوياً جداً، وأشار إليها في عدة مواضع في كتابه: درء تعارض العقل والنقل، وهو كتاب مكون من إحدى عشر مجلداً، مطبوع وموجود.

هذه القضية لو أردنا أن نستفيض في دراستها والنظر في خفاياها لطال بنا المقام إلى حد بعيد، ولكن أحصرها في أمثلة: لو سألت أحداً منكم عن أيهما يكون نجساً المني أو الغائط؟ كلكم ستجيبون أن المني طاهر والغائط نجس، ومع ذلك إذا خرج من الإنسان قطرة من المني أوجبت عليه أن يغسل جسده من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه.

لكن إذا خرج منه غائط هل يلزمه ذلك؟ لا، يلزمه غسل الموضع، وتجديد الوضوء فقط، أما غسل الرأس والأكتاف والظهر والبطن والأفخاذ والسيقان هذه ليست واردة.

إذاً: العقل يقول لك: الأصل أن هذا نجس وهذا طاهر فالأولى أن يغتسل الإنسان من الغائط ولا يغتسل من المني، خاصة أن المني طاهر، لكن الشرع يقول لك: لا، بل اغسل جسدك كاملاً لخروج المني ولا تغسله لخروج الغائط أو البول.

إذاً: كأن هناك تعارض بين النقل والعقل، فالذين يأخذون بالمبدأ العقلي يقولون: لا، هذه مسألة حقيقة تحتاج إلى أن نتوقف معها، هذه غير مقبولة عقلاً، فهي مرفوضة عقلاً، لكن أهل الحق يقولون: لا، نقدم النقل على العقل، والعقل هنا صحيح أنه يفرض على الإنسان أن يغتسل من خروج الغائط ولا يغتسل من خروج المني، لكن الشرع يقول لنا: لا بد أن نغتسل للمني، إذاً لا بد أن نغتسل، فقدمنا النقل على العقل.

جاءت الاكتشافات الحديثة والتي تعد مصداقاً لقول الله سبحانه وتعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:٥٣].

يقول أحد الأطباء الألمان: إنني اكتشفت - بعد دراسة مستفيضة لمدة عشر سنوات - أن الإنسان الأوربي يوجد لديه سرطان الجلد بنسبة تفوق وجودها في العالم الفقير - ومنه العالم الإسلامي - تكاد تصل إلى (١٠%).

يقول: بعد دراسة ومتابعة مستفيضة دقيقة تبين لي أن السبب في ذلك هو أن الإنسان إذا أفرز شيئاً من المني فإن الجلد يفرز إفرازاً معيناً، فإذا تراكم هذا الإفراز مرة وثانية وثالثة وعاشرة أدى ذلك بالإنسان إلى أن يصاب بسرطان الجلد.

أما المسلمون فإنهم عندما يخرج من أحدهم شيء من ذلك فإن عباداته لا تقبل إلا بعد أن يغتسل غسلاً كاملاً، حتى إن الفقهاء يذكرون لك أنه لا بد أن يغسل كل نقطة في جسده، كل شيء حتى ما تحت منابت الشعر، وما تحت الآباط، حتى مغابن الجلد وغير ذلك؛ حتى يزول هذا الإفراز.

إذاً: تلحظون أن التعارض هنا لا يمكن، إذاً: لا تعارض بين نقل صحيح وعقل صريح، لكنه تعارض وهمي زال وانتهى في هذا الزمن.

مثال آخر: حديث الذبابة، الحديث المشهور المعروف: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه؛ فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر دواء).

أنت في نعمة وفي خير، فعندما يقع الذباب في الكأس تسكبه وتنتهي، لكن افترض أنك فقير لا تملك إلا هذا الكأس في البر، حال الجوع والعطش فماذا تفعل؟ هل تخرج الذباب مباشرة وتشرب الماء؟ لا، نص الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لك: (فلتغمسه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر دواء).

في الفترة القريبة - قبل عشرين سنة أو خمس عشرة سنة - اكتشفت هذه المسألة، وإذا بأحد جناحي الذباب يحوي ميكروبات مرض، والجناح الآخر يحوي فطريات تقضي على المرض، فإذا جمع هذا الجناح مع هذا الجناح قضت الفطريات على الميكروبات وانتهى المرض.

ويقول الذين حللوا هذه القضية من العلماء الغربيين: أنهم اكتشفوا أن الذباب عندما يقع في الإناء فإنه يغمس جناحاً ويرفع آخر.

وعندما درسوا هذا، وأجمعوا على أن الجناح المرفوع هو الجناح الذي يحتوي على الدواء، أما الجناح الذي يسقط في الماء أو في العصير أو في غيره فهو جناح الداء، ولذلك جاءك النص: (فليغمسه) فيسحب الماء أو الحليب أو العصير الجراثيم أولاً، وهذا بفعل الذباب وليس بفعلك أنت، ثم بفعلك أنت تغمس الذباب؛ حتى يختلط هذا مع هذا فيزيل هذا هذا.

إذاً: تلحظون أنه لا تعارض بين نقل صحيح وعقل صريح، فتقديم النقل على العقل منهج من مناهج السلف، وهذا يرد على طوائف من أهل العقل وهم موجودون وبكثرة في كثير من البلاد الذين يخضعون نصوص الشرع العقدية بالذات للعقل، وأضرب مثال على هذا: أحدهم يقول: قضية عذاب القبر من القضايا التي لا يمكن أن يؤمن بها الإنسان؛ لأننا نحفر القبور ولا نجد فيها مد البصر نعيماً أو عذاباً، أو حيات أو عقارب، لا نجد ذلك، نحفر القبر فنجد جثة هامدة أو عظاماً بالية، ليس فيها شيء، إذاً: هذا يدل على أنه ليس هناك عذاب قبر، ليس هناك عذاب للقبر نهائياً، فيا ترى ما هو الجواب على هؤلاء؟ الإجابة على هؤلاء: أننا أولاً نقدم النقل، فنؤمن إيماناً قطعياً بأن عذاب القبر ثابت نصاً من القرآن ومن السنة، وأنها من عقائد الإسلام التي ذكر بعض العلماء أن من أنكرها قد يخرج من الإسلام؛ لأنه رد نصوصاً ثابتة لا أقول من السنة بل حتى من القرآن، كما في قول الله سبحانه وتعالى عن آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:٤٦]، فغدواً وعشياً هذه ليست موجودة في الآخرة، الآخرة ليس فيها صباح وظهر وعصر ومغرب وعشاء، فغدواً وعشياً هذه في الدنيا، يعرضون على النار، ثم يوم القيامة يتغير العذاب فيدخلون النار، ويوم القيامة سيكون مآلهم إلى النار بشكل مستمر أو متتابع، هذا دليل من القرآن.

ويوجد في السنة عدة نصوص كما في حديث البراء بن عازب في الصحيحين، وكما في حديث أصحاب القبرين اللذين يعذبان وما يعذبان في كبير، وغير ذلك.

أقول: ليس هذا مجال الرد حقيقة على هؤلاء، لكن هؤلاء يثيرون هذه المسائل، فنحن نقول لهم: لا، بل إن قضية إثبات النقل وتقديمه على العقل هو منهجنا، فإن عرفت الحكمة من ذلك فبها ونعمت، وقد لا أعرفها أنا وتعرفها أنت، وقد لا أعرفها أنا وأنت وغيرنا، وقد لا نعرفها جميعاً ويعرفها من يأتي بعدنا عن طريق دراسات أو بحوث إلى غير ذلك من الوسائل.

<<  <  ج: ص:  >  >>