للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[علامات حسن الخاتمة]

قد يقول قائل: هل لي أن أعرف هل مات فلان على خاتمة حسنة أو خاتمة سيئة؟ نقول: هذه القضية في علم الغيب، لكن هناك علامات قد تعطيك بعض الدليل وليس كل الدليل، وتعطيك نوعاً من الرجاء وليس كل الرجاء في أن فلاناً أو فلاناً قد ختم له بخاتمة حسنة.

أولى هذه العلامات: النطق بالشهادتين عند الوفاة.

قد يقول قائل: إن من السهل إذا جاء الموت أن الإنسان ينطق بالشهادتين، وأن هذا أمر ميسور، ولكني أقول لك كما قال العلماء الذين سطروا هذه القضية في كتبهم: إن النطق في لحظة الوفاة يرتبط بما عاشه الإنسان طوال حياته، فعندما يعايش الإنسان قضية ما، ثم تأخذ عليه كل لبه وكل وقته، فإنه لا يتذكر في لحظة الوفاة إلا تلك القضية، فعندما يأتيه من يلقنه الشهادتين ويقول له: يا فلان! قل: لا إله إلا الله، لا يتذكر إلا تلك القضية التي عايشها.

ولعل ما ذكره ابن القيم من قصة حول هذا المعنى تعطينا الدليل، يقول: كان هناك شاب ورث عن والده مالاً كثيراً، فبنى به قصراً ضخماً، وبدأ يتزين ويتهيأ أمام هذا القصر ليتصيد من يمر بهذا القصر، فمرت به فتاة جميلة وسألته: يا عبد الله! أين حمام منجاب؟ فقال لها: هذا، وأشار إلى بيته، فدخلت وكشفت عن وجهها، ودخل خلفها فرأى وجهاً جميلاً، فأخذت بعقله أخذت ولبه، وعندما رأت أنها وقعت في الفخ، رأت أنها لا تستطيع أن تنجو إلا بحيلة، فقالت: كم كنت أتمنى أن ألتقي بشاب مثلك في جمالك وفي غناك، لكن ترى أن المجلس لا يحلى إلا بكذا وكذا وكذا، وطلبت أشياء توقعت أنها غير موجودة في هذا المنزل، ففرح هذا الشاب بهذه الموافقة العجيبة من هذه الفتاة، فخرج مسرعاً إلى أقرب محل فاشترى ما أرادت ورجع إلى البيت فلم يجدها، فبحث في كل أرجاء البيت وفي كل زوايا البيت، لكنه لم يجدها، فزاغ عقله وذهب لبه في هذه الحالة؛ لأنه فقدها، فخرج من البيت وهو يردد البيت المشهور: يا رُب قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب كان يردد هذا البيت في الأسواق، فجن عقله وهو يردد هذا البيت، وكانت البنات الصغيرات يخرجن إليه عندما يرينه يمر بجوار منازلهن ويرددن: هلا جعلت سريعاً إذ ظفرت بها حرزاً على الدار أو قفلاً على الباب عندما اقترب موعد الأجل، كان أهله يلقنونه الشهادة، وكان يردد: يا رب قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب لا يتصور عقله أن في هذه الدنيا إلا هذه الكلمة فيرفض قبول الشهادة، وهذا هو واقع هذا الرجل الذي كان يردد هذا البيت من الشعر.

العلامة الثانية: الموت في رشح الجبين: يروى: (أن بريدة بن الحصيب الصحابي الجليل، ذهب في زيارة أخ له في منطقة خراسان، ووجده في الموت، فرأى جبينه يعرق، فقال: الله أكبر! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: موت المؤمن بعرق الجبين).

إذاً: إذا رأيت رجلاً في شدة البرد وهو يعرق منه الجبين فقط، فهذه علامة، ولقد رأيت العرق على جبين أحد المتوفين في يوم ما، ولم يكن هناك أي عرق على خديه أو على الرقبة، أو غير ذلك من المواضع التي غطيت ببعض اللحف، لم يكن هناك أي عرق إلا على الجبهة فقط، ولعل هذا فيه دلالة على حسن الخاتمة إن شاء الله.

العلامة الثالثة: الموت ليلة الجمعة، أو نهار الجمعة من المؤمنين بالذات، ولعل هناك كفار يموتون ليلة الجمعة ويوم الجمعة ويصلى عليهم في الحرم النبوي أو المكي، ويدفنون في البقيع، ومع ذلك فهم كفار، إنما المؤمن إذا مات في ليلة الجمعة أو نهارها، فلعل الله أن يختم له بخاتمة حسنة.

العلامة الرابعة: الاستشهاد في ساحة القتال، أو الموت أثناء الطريق إلى القتال في سبيل الله، هذا فيه دلالة على حسن الخاتمة إن شاء الله.

العلامة الخامسة: موت المؤمن بأمراض متعددة إذا صبر واحتسب، كالكوليرا والطاعون والسل وغيرها، فقد ذكرت الأدلة الصحيحة في ذلك فيما يرتبط بداء البطن، الذي ذكره الأطباء أنه الكوليرا الآن والطاعون والسل، وكالموت غرقاً أو هدماً أو حرقاً بالنسبة للمؤمنين، هذا يرجى فيه أن يكون الشخص قد مات شهيداً، وهناك أنواع كثيرة للشهداء، فقد جاء في الحديث: (أن المصطفى عليه الصلاة والسلام زار عبد الله بن رواحة وكان مريضاً فجلس على طرف السرير، وسأل سؤالاً وقال: من الشهداء في أمتي؟ فقيل له: الشهيد الذي يقتل في سبيل الله، فقال: إذاً شهداء أمتي قليل، ثم قال الرسول عليه الصلاة والسلام: إن الشهداء سبعة، وذكر منهم: المصاب بالطاعون، والمصاب بداء البطن، والغريق والذي مات بالهدم، ومات بالحرق، والمرأة تموت في نفاسها ,) إلى آخر الحديث، فذكر أن هؤلاء كلهم شهداء، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة.

إذاً: أختم هذا الكلام بمقولة جميلة جداً ذكرها أحد العلماء، نقلها ابن القيم في الجواب الكافي رحمه الله تعالى، يقول: قال الحافظ أبو محمد الأشبيلي: واعلم أن لسوء الخاتمة أسباباً وطرقاً وأبواباً، أعظمها الانكباب على الدنيا والإعراض عن الأخرى، والإقدام والجرأة على معاصي الله عز وجل، وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة ونوع من المعصية وجانب من الإعراض ونصيب من الجرأة والإقدام فملك قلبه، وسبى عقله، وأطفأ نوره، وأرسل عليه حجبه، فلم تنفع فيه التذكرة، ولا نجحت فيه الموعظة، وربما جاءه الموت وهو على ذلك، وسمع النداء من مكان بعيد، فلم يتبين المراد ولا علم ما أراد، وإن كرر عليه الداعي وأعاد.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

<<  <  ج: ص:  >  >>