للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[كيفية نشأة الديانة السيخية وذكر أهم زعمائها]

الكلام في هذه الديانة يكون من عدة جوانب: الجانب الأول: نشأة هذه العقيدة.

العقيدة السيخية نشأت من قبل شخص معروف يسمى ناناك، وهذا الرجل ولد في سنة ١٤٦٩م في مدينة فلوندي في باكستان بقرب لاهور، وقد أمضى حياته في وقت الملك المغولي لبلاد الهند، حيث كانت باكستان الشرقية وبنجلادش وكشمير والهند دولة واحدة تحكم من قبل الحكام المغول، فلم يكن هناك تقسيم.

فولد هذا الرجل في هذه المنطقة التي هي فلوندي في عهد الملك المغولي بهلول اللودي، وكان هذا الملك ليس بمشهور لكنه معروف في سجلات التاريخ.

وهذا الرجل الذي هو ناناك كان هندوسياً، وكلمة هندوس جمع هندوكي، فكلمة هندوكي مفرد، وإذا جمعت باللغة الإنجليزية أضيف إليها حرف ( S) فصار المعنى هندوسي، لكن جرت على ألسنة الناس على أن هندوس اسم علم لهم، مع أن الاسم هنا هو الجمع الإنجليزي لكلمة هندو أو هندوكي، فلا بد أن يلاحظ هذا الشيء.

وكان ناناك هذا من طبقة الكاشتر وهي الطبقة الثانية عند الهندوسيين، فالهندوس يقسمون أنفسهم إلى أربع طبقات: الطبقة الأولى: البراهمة، وهم حملة الكتاب المقدس، وهم في أعلى الدرجات، ويمتلكون كل ما يمتلك من ناحية المادة أو من النواحي المعنوية وغيرها.

الطبقة الثانية: طبقة المحاربين وهم الكاشتر، وكان ناناك من هذه طبقة الكاشتر، ويقال: إنه يرجع إلى العنصر الآري الذي جاء إلى الهند غازياً قبل مئات السنين.

كان ناناك هذا محباً بشكل بين للعزلة والانعزال منذ صغره، وهذا أمر يلاحظ في الأطفال كثيراً فتجد بعض الأطفال يشتهر عندهم محبة العزلة وعدم الارتباط بالآخرين، فتجده يلعب لوحده ويجلس لوحده وغير ذلك وهذا هو المشاهد، ومن عنده أطفال قد يشاهد هذا في بعض أطفاله، فكان ناناك مشهوراً بحب العزلة منذ صغره وكان ذكياً، فعندما أدخل المدرسة انكب على الدروس انكباباً عجيباً؛ لطرد هذه العزلة التي كان يعيشها، وليس لطرد العزلة ذاتها ولكن لأنه يحس بفراغ، فأراد أن يعوضه عن طريق الانكباب على الدرس مع عدم الارتباط بالآخرين، فاستطاع أن يجيد عدة لغات، فاستطاع أن يجيد اللغة الأوردية، والفارسية، بالإضافة إلى لغته الأم والسنسكريتية.

وبعد أن كبر قليلاً وتخرج من المدرسة عمل محاسباً لرجل أعمال أفغاني مشهور ومعروف بثرائه كان يعيش في منطقة باكستان يدعى سلطان بور، وكان يسكن بجوار أسرة مسلمة، وكانت هذه الأسرة تعمل في خدمة هذا الرجل الأفغاني، فكان يراهم يصلون ويتعبدون ويطوفون بالقبور وبالأضرحة فعرف عن طريق هذه الأسرة الإسلام، أي: الإسلام المحرف لا الإسلام السليم، فتعرف على الإسلام بهذه الكيفية، ثم بعد ذلك فكر في ديانته التي يؤمن بها، وفكر كذلك في ديانة هذه الأسرة التي احتك بها، فأراد بعد ذلك أن يدرس الأديان، ونظراً لأنه شاب ذكي ولديه ذكاء وفهم واستيعاب فقد بدأ في جمع مجموعات من المؤلفات والكتب حول الأديان، فدرس الديانة الإسلامية والهندوسية واليهودية وغيرها ليرى ما هو الصواب، وأثناء دراسته لهذه الأديان كانت المسألة لديه تعتبر عادية، لكن ظهر في حياته شخص كان له دور كبير جداً في إبرازه وبروزه، هذا الشخص كان رجلاً هندياً يدعى السيد حسين درويش، وكان رجلاً هندياً صوفياً مسلماً، يعني: كان مسلماً اسماً، وأما سلوكه فليس من الإسلام، وإنما كان من صوفية الهند، فتعرف عليه عن طريق هذه الأسرة المسلمة، فالتزمه ولازمه باستمرار، وكان السيد درويش يؤمن إيماناً قطعياً بوحدة الأديان أو بمعنى أخص بوحدة الوجود، ويؤمن بالحلول والتناسخ، ويعد من غلاة الصوفية، ويرى أن أي عبادة تصدر من أي فرد كان فإن هذه العبادة تعد عبادة سليمة إذا كانت موجهة إلى الله سبحانه وتعالى، وأما مصدر التوجه من أين هو من فلان أو فلان فهذا لا يهم، فأهم شيء في هذه القضية أن تكون عبادة سليمة وموجهة إلى الله، فعند ذلك تقبل هذه العبادة، ولذلك كان يقول لـ ناناك: إن ديانة الهندوسية صحيحة، وإن ديني صحيح، وإن دين هذه الأسرة صحيح، وإن كل هذه الأديان صحيحة وبالتالي لا خلاف في ذلك، وأما الخلافات الموجودة الآن فهي خلافات شكلية إلى آخر ذلك.

فأثر فيه هذا الفكر أيما تأثير، وبالتالي بدأ يفكر في مشروع توحيد الأديان، فهو لا يرى أمامه في الهند إلا دينين اثنين الهندوسية والإسلام، ويرى بينهما من الانقسام والتنافس والاختلاف في العقائد الشيء الكثير جداًن فبدأ يفكر في مسألة توحيد الأديان، ففكر في أن يقوم أولاً بجولة كاملة لجميع المناطق المقدسة في العالمين الإسلامي والهندوسي، فشد الرحال إلى مكة ومكث في مكة فترة من الزمن، ومكة آنذاك كان فيها من البدعيات والشركيات الشيء الكثير، ولم تزل إلا قبل فترة ليست بالبعيدة، كالقباب التي على القبور، والطواف حول الأضرحة وغير ذلك، وكما هو معروف فإن مقبرة المعلا في مكة كانت معروفة بكثرة قبابها، وكذلك البقيع في المدينة، ففي كتاب (رحلة الحرمين) لـ إبراهيم رفعت باشا، وهذا الرجل كان زعيماً في المحمل المصري، وكانت هذه الرحلات قد قامت من مصر في الأعوام من (١٣١٤هـ) تقريباً إلى (١٣٢٢هـ) أو (١٣٢٣هـ) أو قريباً من هذا التاريخ، فهذا الرجل كان محاسباً في المحمل وبالتالي فإنه كان رجلاً مؤرخاً وكاتباً، فكان يصور كل ما يراه ويتحدث عنه بدقة دقيقة جداً، حتى إنه كان يكتب في كتاباته الأشياء التي صرفها أو قيمتها، فمثلاً: كتب عن بعض الأشياء أنه في تاريخ كذا كان سعره في مكة كذا وكذا.

وموضع الشاهد: أنه أرفق في هذا الكتاب عدداً كبيراً من صور القباب المقامة على القبور، فهذه قبة حمزة، وهذه قبة خديجة، وهذه قبة عثمان إلى آخر ذلك.

فـ ناناك زار مكة، ثم زار المدينة، ثم زار الأماكن المقدسة عند الرافضة كالنجف وكربلاء، وزار بغداد، ثم زار مزار شريف، وزار مشهد، وزار قم وغيرها من المناطق، ثم بعد ذلك رجع إلى بلاده باكستان، ثم أخذ جولة في الهند فزار المعابد الهندية المشهورة، وزار نهر الجان المشهور، وزار بنارس، وزار مناطق كثيرة جداً ودخلها وتعرف على كل الحياة الدينية في هذه المناطق، ثم رجع إلى بلاده.

والآن تمخضت فكرة توحيد الأديان في ذهنه، فماذا يفعل يا ترى؟ دعي مرة من المرات من قبل والده للعمل في الحقل الذي كان يديره والده، وكان والده غنياً، فقال له: لا أستطيع أن أعمل؛ لأني قد أوكل لي مهمة أعظم بكثير مما تتخيل يا والدي، فأراد والده أن يعرف منه هذا الخبر فرفض أن يخبره بذلك.

وفي يوم من الأيام جمع مجموعة من أتباعه وكانوا متحلقين في جانب نهر للاستحمام، فدخل في هذا النهر ثم اختفى كما يقول أتباعه ذلك، لكن هل اختفى فعلاً أو أنها خدعة أو غير ذلك؟ الله أعلم، يقولون: اختفى لمدة ثلاثة أيام، ثم خرج إلى أتباعه وأعلن إعلاناً وقال: إنني رأيت الرب، وقد أوصاني بأن أعلن: لا هندوس ولا مسلمون، فرفع هذا الشعار: لا هندوس ولا مسلمون، أي: أن الهندوسية شيء مرفوض والإسلام شيء مرفوض، والبديل هو دين منتقى من الدينين السابقين وهو عبارة عن مجموعة أفكار أخذها من هذا الدين وهذا الدين، ثم أخرجها على أنها الدين الأساسي الذي يريد أن يؤمن به.

وبعد أن أعلن هذا الإعلان رفض المسلمون هذا الكلام وكذلك الهندوس، فقام بمناظرات شديدة وقوية مع الهندوس ومع المسلمين كذلك، فكان انتصاره على الهندوس بيناً واضحاً؛ لأن عقائد الهندوس باطلة، وبالتالي فكثير ما تتهاوى هذه العقائد أمامه، بالإضافة إلى أنه كان ذكياً، فكان ينتصر عليهم في النقاش، مما جعل كثيراً من الهندوس يتبعونه، وقد كان يناقشهم في ثلاث مسائل أساسية: المسألة الأولى: مسألة عبادة الأوثان، كيف أن الإنسان يعجب بشيء فيعبده على أنه إله؟ المسألة الثانية: ما يسمونه بالهندية: إستاتي، وهي إحراق الأرملة مع زوجها المتوفى، وكانت عادة بشعة جداً موجودة عند هؤلاء، فكان يناقشهم في هذه الجريمة التي تفعل.

المسألة الثالثة: مسألة الطبقية أو الطبقات عند الهنود، وكان يركز على طبقات المنبوذين، فاتبعه عدد كبير جداً وخاصة من الطبقات الدنيا الذين هم المنبوذين، فصار له أتباع.

وأما من ناحية المسلمين فكان يناقشهم كثيراً في مسألة عبادة الأضرحة والقبور، ويقيم عليهم الحجة، فكان ذلك من أسباب سقوط هذا الدليل عند المسلمين، وبالتالي فإن أتباعه الذين معه كانوا يرون فيه انتصاراً لهم؛ لأنهم يرون أنه انتصر على الهندوس عن طريق مناقشتهم في عدة قضايا، ويرون أنه انتصر على المسلمين في إسقاط دليلهم تجاه الأضرحة وتجاه القبور.

واشتهر عنه أنه كان يحمل معه القرآن والفيدا -وهو كتاب الهندوس المقدس- باستمرار، ويعود هذا إلى أنه يريد أن يؤسس لنفسه كتاباً مقدساً، وهذا الكتاب المقدس لا بد أن يأخذه من هذا الكتاب وهذا من الكتاب، وأخرج لأتباعه مجموعة من النصوص التي تعتبر مقدسة، ولو رجعنا إليها ودققنا فيها لوجدنا فيها نصوصاً بل آيات كاملة من القرآن، ونصوصاً كاملة من الفيدا وهو كتاب الهندوس المقدس.

ومن القضايا التي آمن بها وسعى إليها قضية محاربة المبدأ الذي يؤمن به الهندوس وهو التناسخ، وإحلال مبدأ الإيمان بيوم القيامة؛ ليبين لهؤلاء الهندوس سقوط هذه العقيدة وتهافت هذه العقيدة ورفضها عقلاً ونقلاً ونصاً وفطرة، وفعلاً كان لها دور كذلك في سقوط المبدأ الهندوسي.

والتقى ناناك بالحاكم المغولي المشهور بابار الذي ينسب إليه المسجد الباباري المهدوم، وأعجب هذا الملك بفكرته وأيدها.

ونسبة هذا المسجد لـ بابار لا يدل ذلك على أنه كان رجلاً صالحاً أو قوياً أو رجلاً ممتازاً من الناحية الشرعية، فالقضية قضية نسبة فقط، فالمسجد بني قبله ونسب إليه، فقد اشتهر بتأييده لهذا المنهج الذي هو منهج السيخ، بل وقد ثبت ثبوتاً قطعياً وتاريخياً أنه كان للسكان المغول المسلمين دور قوي في بروز السيخ وظهورهم، فأبرز من

<<  <  ج: ص:  >  >>