[كيفية الحكم على الأمور من خلال العقل]
لدينا عقل شخص معتزل أو عقلاني آمن بقضية أو بفكرة وأقرها بعقله، فجئت أنت بدليل شرعي من القرآن أو السنة، فإنه يأخذ هذا الدليل ويعرضه على العقل، فلا يكون أمامه إلا خياران اثنان: إما أن يكون هذا الدليل موافقاً للفكرة العقلية الموجودة لديه.
وإما أن تكون معارضة، فإن كانت موافقة فالقضية انتهت وليس هناك إشكال.
وإن كان هناك تعارض بين الدليل النقلي والعقلي فإنه ينظر إلى هذا الدليل النقلي: هل هو قرآن أو سنة، فإن كان قرآناً فإنه هو المقدم، لكن العقل مقدس عنده، والفكرة العقلية هي الأساس، والقرآن يعارضه فالحل هو أن يحرف القرآن، ويغير أو يعدل شيئاً في القرآن تعديلاً يوافق الفكرة العقلية.
وإن كان الدليل العقلي معارضاً للسنة فإنه ينظر إليها: هل هي سنة متواترة أو آحاد؟ فإن كانت سنة متواترة عاملها معاملة القرآن من ناحية التحريف والتعديل والتبديل.
وإن كانت آحاداً ردها رداً كلياً.
مثال ذلك: المعتزلة يقولون: إن الإنسان هو الذي خلق الشخص ولم يخلقه الله سبحانه وتعالى، مع العلم أن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٦].
فالإنسان هو الذي خلق الشر فقط، أما الله فلم يخلقه، فهم آمنوا بهذه العقدية فجئنا لهم بقول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:١ - ٣].
فالله يأمرنا أن نتعوذ من الشر الذي خلقه، إذاً: الله سبحانه وتعالى كما في الآية هو الذي خلق الشر، فجئنا بالآية وعرضناها على العقل فكانت مخالفة، إذا: معنى هذا أنهم يتجهون معها اتجاهاً آخر، وهو التحريف والتعديل والتغيير، فقالوا: لا، الآية هي: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:١].
{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:٢]، فما: نافية عند المعتزلة وليست موصولة، أي: ما خلق الله الشر، فباعتبار أنه قرآن ثابت قطعي الدلالة قطعي الثبوت ما ردوه، لكن أثبتوا هذا المعنى.
وخذوا مثالاً آخر على هذه المسالة: المعتزلة قرروا أن الإنسان هو الذي يخلق فعل نفسه، فهو الذي يقرر أنه سيفعل المعصية، أو سيفعل الخير أو غير ذلك، والله لا يعلم شيئاً عن ذلك -تعالى الله عما يقولون- وهذا إنكار لعلم الله، ويترتب عليه أن الله لا يعلم ماذا ستعمل، ولا يعلم متى ستموت، ولا يعلم من سيدخل الجنة ومن سيدخل النار إلى غير ذلك.
وهذه القاعدة عقلية تعارض سورة المسد: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:١ - ٣].
فالسورة لما نزلت كان أبو لهب على ظهر الأرض حياً، فمن الممكن أن يقول: أنا من أهل النار، إذاً: سأؤمن وأكون من أهل الجنة، لكن الله قد كتب في علمه أن هذا الإنسان سيعاند ويموت معانداً ويكون من أهل النار.
فوجدوا أن هذه السورة تعارض الفكرة فحاولوا أن يحرفوا السورة ما استطاعوا فقد روي عن عمرو بن عبيد أنه قال: والله لوددت أن أحك سورة تبت من المصحف.
فالعقل عند هؤلاء مقدم على كل شيء، حتى لو ترتب على ذلك أن يلغي السورة كاملة من القرآن لكي يؤصل فكره العقلاني.