للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[قبسة من زمن العز]

معلوم أن هارون الرشيد رحمه الله تعالى من الملوك الذين كثر الكلام السيئ عنهم من قبل أعداء الدين، فكان الناس يعرفون عن هارون الرشيد أنه صاحب لهو وغناء وخمر وغير ذلك، لكن لو اطلعت فعلاً على سيرة هذا الرجل لرأيت في الليلة الواحدة مائة ركعة، ولرأيت أنه يحج عاماً ويغزو عاماً، فقد كان رجلاً مجاهداً صاحب خلق ودين، ولكن الذين دمر عليهم بلادهم وأفسدها عليهم من المشركين أو النصارى أو الشيعة أو المجوس ألفوا فيه المؤلفات المضادة له.

ومن مواقف هذا الرجل أنه ذات مرة جاءه خطاب طويل كثير الحروف والكلمات من ملك الروم يشتم ويسب فيه الخليفة هارون الرشيد، كما يسب المسلمين ويضحك عليهم في خطابه هذا، وأخذ يهدد في خطابه قائلاً: سأدمركم سأقضي عليكم سأكون جيشاً هائلاً قوياً يكتسح بلاد المسلمين فلا يرده أو يقف أمام وجهه أحد حتى يصل إلى الكعبة فيقضي عليها ويدمها، فلما وصل هذا الخطاب إلى هارون الرشيد قرئ عليه، فالتفت إلى كاتبه وقال: اكتب خلف الخطاب -فهو لا يريد أن يرسل له خطابه في ورقة جديدة استحقاراً له وإهانة له! - من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، إن الجواب ما ترى لا ما تسمع، والسلام على من اتبع الهدى.

فكان الخطاب ثلاث كلمات، ثم نادى في الناس: الغزو الغزو الجهاد الجهاد، فاجتمع الناس زرافات ووحداناً، وما هو إلا وقت قصير فإذا بالجيش يلتئم، وإذا بالقوة تتجمع، ثم يقودها هذا البطل العظيم متجهاً إلى نقفور بذاته، ويصل إليه بعد أن يفتح البلاد تلو البلاد، والقرى تلو القرى إلى أن يصل إلى عاصمة نقفور، فيحاصرها ويستمر في الحصار ويحلف ألا يرجع إلا برأس نقفور، ولما شعر الروم بالخطر عرضوا عليه ما شاء من مال جزية ولكنه رفض، ثم في النهاية قام الروم بالانقلاب على نقفور وسلموا رأسه إلى هارون الرشيد قتيلاً، ثم استسلموا جميعاً إلى هارون الرشيد ودفعوا له الجزية أذلة صاغرين، فعاد رضي الله عنه ورحمه الله منتصراً قوياً إلى بلاده، قد رفع راية الإسلام عالية خفاقة على تلك البلاد، وأما نحن اليوم: رب وا معتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم تصرخ امرأة في عمورية: وا معتصماه! بعد أن اعتدى عليها الروم، فيقول المعتصم: لبيك لبيك.

ويتجه بجيش قوي إلى عمورية وهي بلد قوي من أحصن معاقل الروم، ثم يفتحها ويدمر الروم ويقضي على من اعتدى على هذه البلاد الإسلامية، ويخلص الأسارى المسلمين منهم، ثم يأتي إلى المرأة ويقول: هل استجبنا لك؟ قالت: نعم وجزاك الله خيراً.

وفي هذا الزمان يصرخ المسلمون في الجزائر، وفي بورما يصرخون، وفي يوغسلافيا يصرخون، ويصرخون في إرتيريا، وفي الحبشة، وفي الفلبين، وفي أفغانستان، وفي إيران، وفي العراق، وفي سوريا في كل البلاد بلا استثناء يصرخون: رب وا معتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم يعني: لامست أسماع الحكام والولاة.

وهذا الذي نعيشه من بلاء ومن ذل ومهانة من قبل الأعداء في كل مكان هو بسببنا نحن! إذ أن الذل والهوان سببه الوقوع المستمر في الذنوب، فالله سبحانه وتعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فقد غير المسلمون العهد مع الله، أما كانوا عاهدوا الله على نصر دينه، والسير في طريقه، وترك البدع والمعاصي والآثام والخطايا؟ لكن هذا العهد انهار فكنا ممن خالف العهد ونبذ الميثاق وراء ظهره، فغير الله حالنا من حال العزة إلى حال الذلة التي نعيشها الآن.

فبينما كنت أقرأ في كتاب يتحدث عن صلاح الدين الأيوبي، وكان هذا الكتاب يتحدث على سيرة هذا الرجل عن قرب، إذ إن مؤلف هذا الكتاب رجل عاش مع صلاح الدين وعاشره طوال حياته، كان هذا الرجل هو القاضي الذي عينه صلاح الدين قاضياً على الجند.

فاستوقفني في هذا الكتاب موقفان: أما الموقف الأول: فهو عبارة عن قصة موجزة، وأما الموقف الثاني فهو عبارة عن خاطرة لـ بهاء الدين شداد قاضي صلاح الدين.

يقول القاضي: كان صلاح الدين رحمه الله تعالى يحب الأطفال محبة شديدة، ويعطف عليهم، وكان له من الأبناء سبعة عشر ابناً، وبنت واحدة، وكان يحبهم محبة شديدة، وكان إذا اجتمع معهم عطف عليهم ويقرئهم القرآن بنفسه، ويحفظهم الحديث بنفسه، ويؤكلهم بيده، لكنه يرى الإفرنج الصليبيين يكتسحون بلاد العالم الإسلامي بلدة بلدة ومدينة مدينة فهل يبقى مع أبنائه في لذة ومتعة، وفي نعمة وسعادة وهو الملك الذي يملك شمال أفريقيا والسودان ومصر والجزيرة والشام وأجزاء من العراق؟ لقد كان بإمكانه أن يمكث في قصره الفاره ويرسل القوات إلى كل مكان ويتمتع مع أبنائه، لكنه قال: لا، إن لم أقد الجيوش بنفسي ضد هؤلاء فربما يترتب على ذلك هزيمة؛ لأنه عاش في وقت كثرت فيه الخيانات وكثر فيه الضعف.

فبدأ يقود الجيوش تلوى الجيوش واحداً تلو الآخر مدة تسعة عشر عاماً.

يقول بهاء الدين شداد: كان إذا دخل مدينة ورأى أطفالاً صغاراً ناداهم، ثم حن عليهم وعطف عليهم وقبلهم وبكى، فكان يبكي رحمه الله؛ لأنه يتذكر أبناءه الذين مضت عليه سنوات طوال لم يرهم، فهو في جهاد مستمر ضد الروم الذين كانوا يتوافدون على البلاد الإسلامية في مئات الآلاف، فكان لا يفكر إلا في مجابهتهم ودحرهم، ولو فكر في أبنائه لضاعت أمور الأمة، أما نحن في هذا الزمن وللأسف الشديد لا نعطي الدعوة إلى الدين ونشره إلا فضول أوقاتنا، وصلاح الدين أعطى الدعوة والعمل لنشر الإسلام ومحاربة أعداء الإسلام كل جهده ووقته، وكل قوته وطاقته فنصره الله، لذلك لا بد أن نعتبر بهذا الموقف فنعطي ديننا كل أوقاتنا لا فضولها حتى يقدر الله سبحانه وتعالى لنا النصر.

وأما القصة فيحكيها القاضي بهاء الدين شداد فيقول: لم أر البحر في حياتي فاتجهت مع صلاح الدين إلى منطقة عسقلان، وعندما فتحناها وحررناها من الروم النصارى قررنا أن نركب البحر إلى عكا، فاتجهنا إلى سفن وركبناها ثم اتجهنا إلى عكا، يقول: فماج البحر موجاً هائلاً وبدأت تتأرجح السفن فخفت وارتعت روعة هائلة، بل وحلفت الأيمان المغلظة بالطلاق والعتاق ألا أركب البحر مرة أخرى، وفي لحظة جلوسي وتفكيري دخل علي صلاح الدين وقال: في نفسي خاطرة هل أذكرها لك؟ يستأذن من قاضيه احتراماً؛ لأنه عالم، فقال: تفضل يا أمير المؤمنين، -وكان يسميه أمير المؤمنين وهو فعلاً كان أميراً للمؤمنين-، فقال: في نفسي أنني إذا حررت بلاد الإسلام من الروم وطردتهم إلى بلادهم أن أكتب وصيتي وأودع أهلي وأودع أولادي، وأقبلهم واحداً واحداً، وأذرف الدموع الأخيرة عليهم، ثم أركب هذا البحر وأتجه إلى النصارى وأتتبعهم في جزائرهم وفي بلادهم وفي ديارهم، فأدعوهم إلى الإسلام أو أقتلهم دون ذلك حتى يمن الله علي بالنصر أو أموت دون ذلك، فيقول بهاء الدين: فكدت أن أموت.

وإنما قال القاضي ذلك لما رأى الفرق بين الحالتين المتضادتين، فهو يتمنى ألا يركب البحر ويعقد العزم على ذلك، وصلاح الدين يفكر في أن يودع أولاده وأزواجه وأهله، ويكتب وصيته، ويتجه في البحر ليقاتل الروم في ديارهم في إيطاليا وفرنسا وبريطانيا وجميع دولهم.

والناظر إلى هذه القصة يجد مدى العزم والقوة على خدمة هذا الدين، وهي القوة والعزيمة التي نفتقدها وللأسف الشديد، بل لا أكون مبالغاً إذا جزمت أنه لا يوجد فينا ولا ذرة واحدة من هذه العزيمة الهائلة الرهيبة القوية عند صلاح الدين.

ولعل هذا الموقف تكرر من عقبة بن نافع الفهري عندما افتتح بلاد المغرب وموريتانيا، فقد دخل بفرسه في المحيط الأطلسي، وبدأ ينظر في الأفق فلا يرى إلا الماء ثم أخذ يقول: والله لو أعلم أن خلفك أرضاً -وقد كان خلفه أرض فعلاً وهي أمريكا لكنه لا يعلم- لركبتك حتى أجاهد في سبيل الله حتى أموت.

إن النظر إلى هذه العزيمة وهذه القوة بعين العبرة لا بد أن يعطينا الدروس تلو الدروس في أن نتمرن ونتمرس ونتدرب على خدمة هذا الدين، ونجتهد في إعطاء هذا الدين جل أوقاتنا، بل كل أوقاتنا لعل الله سبحانه وتعالى أن يمن علينا بالنصر، ولعله سبحانه أن يمن علينا بالقوة والهداية.

<<  <  ج: ص:  >  >>