كان هناك شاب صغير عمره اثنا عشر عاماً يدرس في المرحلة الابتدائية في آخر سنة منها، وقد أتم تلك السنة بنجاح، ثم في العطلة الصيفية أصيب بمرض في حلقه جعله لا يستطيع أن يتكلم، فوجد نفسه غير قادر على أن يواصل الدراسة، فما كان منه إلا أن عقد العزم على أن ينفع أهله؛ لأنه ابنهم الأكبر، فوالده مريض، ووالدته كبيرة، وهو أكبر الأولاد، فكيف يحصل على قوت لهم؟ اتجه الغلام إلى محل لتعليم الطباعة وبدأ يتعلم الطباعة، ثم توظف في إحدى الوزارات طباع على آلة طباعة، وكان يأخذ الراتب الذي يتقاضاه ويصرف على والديه وإخوته الصغار، وكان من عادته أن يجلس في مجالس الناس مع أقربائه، لكنه كان يحس بأنه شاب سلبي، فهو فعلاً يسمع ويفهم وقد رزق ذكاء لا بأس به، لكنه لا يستطيع أن يعبر وأن يشارك، فكان هذا الشاب يعيش في عزلة مع هؤلاء فكره هذه المجالس وبدأ يفكر في مجالس يطغى عليها الجانب السلبي -أي: التي يكون فيها الحديث من جانب واحد- كالدروس والمحاضرات والندوات وغيرها، فبدأ يشارك في الندوات والدروس ويواظب على سماع المحاضرات سواء من الأشرطة وغيرها، فبدأ العلم يزداد في ذهنه شيئاً فشيئاً وبدأ يعرف من الدعاة في المساجد أن هناك شيئاً اسمه الدعوة إلى الله، وأن هناك شيئاً اسمه نشر هذا الدين، وأن هناك شيئاً اسمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأراد أن يشارك وأن يبذل لكنه لم يستطع؛ لما أصابه من عاهة عدم الكلام.
ومع ذلك لم يستسلم لهذه العاهة! بل قرر أن يخصص جزءاً من مرتبه للدعوة وكان مرتبه ألفين ومائة، فكان يعطي والده الألفين ويذهب بالمائة الباقية إلى مكتبة فيشتري بها كتيبات وأشرطة ونشرات، ثم بدأ يحملها معه ويذهب إلى الأسواق، فكلما دخل على صاحب محل وهو في الغالب إما يسمع الغناء، أو يشاهد التلفاز، أو يدخن أهدى إليه شريطاً أو كتيباً أو نشرة، ولأنه لا يستطيع أن يتكلم فقد كان يخرج كلمة هدية بكل صعوبة ثم يذهب.
يقول الذي روى الرواية عنه يقول: التقيت به بعد مدة طويلة فقلت له: هل رأيت أثراً من آثار نشاطك الذي تعمله؟ قال: نعم، -يعبر كتابةً-، ثم قال: ذهبت إلى محل من المحلات وأعطيت صاحب المحل شريطاً من الأشرطة ثم بعد ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر -وكان صاحب المحل أو العامل مصرياً- عدت إلى المحل بعد فدخلته وقد نسيت أنني دخلت في هذا المحل قبل ذلك، فقدمت إليه كتيباً فعندما رآني هذا العامل أخذني وضمني وقبل رأسي، ولأني لا أتذكره جيداً فقد قلت له: أنا لا أعرفك، قال: نعم أنت لا تعرفني ولكنني أعرفك، فو الله بسبب شريطك الذي أهديت إلي في المرة السابقة اهتديت أنا وأصحابي وعددنا ثمانية! فقد تنقل بيننا هذا الشريط في شقتنا التي نسكنها وكلنا تأثر به، فترتب على ذلك أننا عرفنا طريق الهداية وتركنا طريقة الغواية.
فاهتدى ثمانية أشخاص بسبب ريالين فقط! ولا عجب فإن الإخلاص إذا كان مرتبطاً بالعمل فإن الثمرة تكون عظيمة.