[فضل قيام الليل]
أيها الأحبة الكرام! إن الصلاة على وجه العموم زاد المتقين، وقرة عيونهم، ولها في جوف الليل البهيم عندما تسدل الجفون، وتستر العيون لذة لا يشعر بها إلا المتهجدون المخلصون.
يقول أحد السلف وهو ينظر إلى الشمس ويخاطبها: أيتها الشمس لقد أطلت المكوث، أما آن لك أن تتواري، ألا فلتغربي! فهو يريد أن يأتي الظلام حتى يصف قدميه بين يدي رب العالمين، فيعيش لذة لا يعلم مداها ولا يشعر بحلاوتها إلا من عاشها.
أيها الأحبة! لقد وصف الله سبحانه وتعالى عباده المتقين فقال جل وعلا: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:١٥ - ١٦] أي: في دار الدنيا، ثم بين سبحانه وتعالى إحسانهم في العمل فقال: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:١٧ - ١٨]، فهم يحيون الليل بالعبادة فلا تراهم إلا مستيقظين حين ينام الناس، ومنتبهين حين يغفل الناس، فترى نور الطاعة على وجوههم.
قيل للحسن البصري -رحمه الله- التابعي الجليل: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره.
ولما بين لنا الباري سبحانه وتعالى جملة من أوصاف عباد الرحمن كان من هذه الأوصاف التي نتلوها ونسمعها وتقرأ علينا: أنهم تميزوا عن غيرهم بأنهم يمضون ليلهم في قيام وسجود حباً في الملك المعبود، يقول الباري سبحانه: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:٦٤].
ويقول الحق تبارك وتعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:٩].
يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة فليره الله في ظلمة الليل ساجداً وقائماً؛ يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه.
الله أكبر إنها سلعة تريد شيئاً يقدم بدلاً عنه لتنال ما وعد الله سبحانه وتعالى.
وقد ذكر الباري سبحانه وتعالى في كتابه العزيز هذه العبادة الجليلة ثم أعقبها بالجزاء الأوفى، فقال جل ذكره وتعالى في صفاته: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:١٦].
ثم عقب سبحانه بقوله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:١٧].
فكما أنهم أخفوا العمل الذي يقومون به سواءً كان هذا العمل قياماً أو نفقة، واستتروا بجنح الظلام، فأخفى أحدهم ما ينفق فلا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، أخفى الله سبحانه وتعالى لهم الأجر في الآخرة، فلهم من الكريم الوهاب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.