أولاً: المنهج من ناحية نشأته
نشأ المنهج العقلاني في أوائل القرن الأول الهجري، ويقول العلماء: إن السبب الأساس لنشأته: أن الخليفة العباسي المأمون هو الذي أعطى دفعة قوية للمنهج العقلاني ليبرز؛ لأن العقلانيين المتمثلين باسم المعتزلة، أحاطوا بـ المأمون إحاطة السوار بالمعصم، واستطاعوا أن يؤثروا عليه تأثيراً قوياً حتى دان بمنهجهم.
وبالتالي استغلوا فيه القوة والملك، وبدءوا في نشر مذهبهم بطرق متفاوتة.
هو أن المأمون بإيحاء من زعماء المعتزلة أرسل مجموعة من الرسائل إلى جملة من زعماء العالم الغير مسلم، فأرسل رسلاً إلى زعماء الهند والصين، ومنها رسالة إلى الملك جورج الأول ملك صقلية، وكانت صقلية في ذلك الوقت دولة جزء منها مسلم والجزء الآخر غير مسلم، فأرسل رسالة طلب فيها من ملك صقلية إعطاءه مجموعة من الكتب التي في خزانة كنيسة كذا وكذا.
فجمع ملك صقلية الوزراء ورجالات الدين، وقرأ عليهم رسالة الخليفة المأمون، فقال: ما رأيكم؟ فأصر الجميع على عدم التجاوب؛ لأنه عدو محارب، وكلهم كان على نفس الرأي، ما عدا بابا الكنيسة، قال له: أيها الملك، لقد اطلعت على هذه الكتب، وقرأتها وعرفت ما فيها، فوالله ما دخلت هذه الكتب على قوم إلا أفسدت عقائدهم، فانسخ لهم منها نسخة وأرسلها إليهم.
فارتاح الملك لهذا الرأي، ونسخ نسخة من هذه الكتب السرية التي أغلق عليها في أماكن خاصة، ثم أرسلها إلى المأمون.
بدأ المأمون ينظر إليها فإذا هي مكتوبة باللغة اللاتينية، لغة لا يعرفها لا هو ولا أتباعه فبدأ يبحث عمن يترجم هذه الكتب، فوجد اليهود مستعدين لذلك؛ لأن اليهود في ذلك الوقت يقرءون التوراة باللغة اللاتينية، ويجيدون العربية بحكم الاحتكاك مع المسلمين والعرب.
وعندما قرءوا اليهود هذه الكتب، وجدوا فيها سلاحاً نزل عليهم فجأة ما كانوا يحلمون به، فهي كتب فاسدة عقائدياً إلى أقصى حد: كتب أفلاطون: كتب أرسطو، كتب فيثاغورث من زعماء اليونان.
فبدءوا يكتبون ويكتبون، ثم أعطوا نسخة منها إلى المأمون واحتفظوا بنسخة عندهم ثم بدءوا ينسخون هذه النسخ، ويجعلونها في أماكن الوراقين، والنسخة التي تعد خمسمائة صفحة بدينار، وكتاب موطأ الإمام مالك مثلاً مائة صفحة بعشرين ديناراً، فهذا يشتري وذاك يشتري، حتى انتشرت الفكر التي جاءت عن طريق هذا المنهج.
وبدأ الفكر ينتشر ويقوم على قضية تقديس العقل، وأن العقل هو الحكم في كل شيء، فما أحبه العقل يحب، وما كرهه العقل يكره، وما حكم به العقل يؤخذ به، وما رده العقل يرد.
هذا هو المنهج الذي دان به هؤلاء الحكماء وعلماء اليونان ثم نشروه بين الأتباع.
إذاً: هذه بداية النشأة، ثم بدأ يظهر ويتبلور، ويدعو إليه أصحابه بطرق معينة، يكتبون فيه كتابات، ويؤلفون فيه التأليف، وتظهر المناظرات والمحاضرات والدروس في المساجد لبث هذا الفكر العقلاني.