[عرض لجهود اليهود في حرب الدعوة الإسلامية في نشأتها الأولى]
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذا الدين سيظهر وينتشر ويعم البلاد، بل ويظهر في كل الكرة الأرضية.
هذا الدين الذي سيظهر وقف له أعداء، ووجد له معادون، وهؤلاء الأعداء كثر ومتعددون، ولعل من أبرزهم: اليهود.
وما سألقيه اليوم عبارة عن محاضرة ألقيتها في الرياض بعنوان: صور من التحدي اليهودي، وقد ألقيتها هناك لظروف خاصة مرتبطة بقضية الهجمة اليهودية الأخيرة بمساعدة جم هائل من النصارى والعلمانيين والزعامات النفعية التي تريد الاستسلام لهؤلاء اليهود والتسليم لهم.
عندما أطرق هذا الموضوع عليكم بالذات أطرقه من نواح علمية خاصة؛ لأني أرى هذه الوجوه الطيبة المباركة تصبو إلى العلم، وتسمو إلى العلم، وتطلب العلم، ولعلي أستسمحكم عذراً أولاً وآخراً إذا أطلت عليكم أو أثقلت، فالعلم حمل ثقيل، ولابد من أن نتحمل، فلا علم إلا بتعب، ولا طلب إلا بتعب، والعلم لا يؤخذ كشربة ماء بل يؤخذ كشربة علقم، فإذا صبرت وصابرت فإنك ستشفى إذا أخذتها كدواء.
ولعل بعضاً منكم يقرأ في كتاب الله تعالى نصوصاً متعددة وكثيرة تتحدث عن اليهود، وتتكلم عنهم فيتساءل ويقول: لماذا أطال القرآن الكلام عن فئة وشرذمة قليلة مقارنة بمجموعات وتجمعات بشرية أكثر من اليهود؟! علماً بأن النصارى في وقت نزول القرآن كانوا أضعاف اليهود، والمجوس والهندوس كانوا أضعاف اليهود، فلماذا التركيز على اليهود بالذات؟ هذا سؤال ينبغي أن نجد له إجابة، والإجابة على هذا السؤال هي ما سنلقيه في هذه المحاضرة.
لا بد أن نعلم أننا عندما نناقش ونتحدث عن اليهود فإننا لا نناقش تحدي اليهود للنصارى أو للعلمانيين أو غير ذلك، بل نناقش تحديهم للمسلمين فقط، هذا هو الذي سيطرق، وهذا هو الذي سيطرح، ولعل الناحية التأصيلية لهذه القضية تأخذ الاتجاه التالي: أولاً: تمهيد وتوطئة: وهو عبارة عن عرض موجز مختصر عن جهود اليهود في حرب الدعوة الإسلامية في نشأتها الأولى، ثم الصورة الأولى من صور التحدي: المساهمة في إبراز المنهج الكلامي، ثم الصورة الثانية من صور التحدي اليهودي: المساهمة في إبراز المنهج الباطل، أما الصورة الثالثة من صور التحدي: فهي نقل النجاح من موقع إلى موقع جديد، والرابعة: تأخذ مظلة الإعلام والإفساد الشبابي، أما المظلة الخامسة: فالضغط والتحكم، والسادسة: السيطرة والتطبيع، ثم نتوقف وقفات مع صور من المواجهة؛ نطرق الدفاع ثم نطرق الهجوم ثم وقفة أخيرة، ثم ننهي المحاضرة على خير إن شاء الله تعالى.
أما التمهيد والتوطئة في هذه المسألة: فإن اليهود ما فتئوا يكيدون للإسلام والمسلمين منذ بعث المصطفى البشير عليه السلام، ولا أريد أن أرجع إلى الوراء لأناقش لماذا وجد اليهود في المدينة وهم من أهل الشام أصلاً؟ لن أناقش هذا؛ باعتبار أن هذا موضوع تاريخي يحتاج إلى عرض، فإن كان هناك مجال عرضناه في الأسئلة إن كان هناك نشاط من قبلكم.
فمن مناهج اليهود في تحدي المسلمين في نشأة الإسلام الأولى: طرح الأسئلة المعجزة؛ وذلك لتثبيط الإسلام والمسلمين، والدعوة والدعاة، عن طريق دعم هؤلاء المشركين بأسئلة التحدي المستمر، كسؤالهم عن الروح، أو عن الرجل الذي طاف البلاد، وعن الفتية الذين ذهبوا وتاهوا أول الدهر وغيرها.
فالمشركون يتلقون ويسألون ليستخرجوا تحدياً معيناً، فينشرون بين الناس: أن هذا الرجل لا يفهم، وأن هذا الرجل لا يعي، فيجدون ثغرة بين هذا الرجل الداعية وبين الناس.
ولعلكم تعرفون ما حصل من اليهود: يوم أن جاء المشركون إليهم وقالوا: أنتم أهل كتاب، وأنتم أهل علم، وأنتم أهل معرفة، فأينا على الصواب نحن أم هذا الرجل ومن معه؟ فقالوا: بل أنتم أيها المشركون! على صواب، وهؤلاء على باطل؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:٥١].
إذاً: هذا منهج مساندة المشركين في مكة، لكن كانت الفجوة المكانية بين اليهود والمسلمين عاملاً من عوامل ضعف التأثير، لكن عندما هاجر الرسول بدأ التحذير القرآني يتتابع وينزل، ولعل خير مثال على ذلك: سورة البقرة، السورة المدنية التي نزلت أول ما نزلت في أثناء الهجرة إلى المدينة، وفيها قصة كاملة لليهود، لأوضاعهم، لقضيتهم، لأسئلتهم، لمشاكلهم، لمصائبهم؛ وذلك لينتبه المصطفى لهؤلاء ويحذرهم، ولذلك ما إن قدم المدينة حتى أخذ عليهم العهود والمواثيق، فهذا عهد مع بني قريظة، وهذا ميثاق مع بني النضير، وهذه معاهدة مع يهود بني قينقاع، وفعلاً سارت الأمور على ما هي عليه، لكن هؤلاء قوم غدر وخيانة، فبعد الهجرة عملوا جملة أعمال.
فأول عمل عملوه أن قالوا: إن هذا الإسلام الذي ظهر سيقضي على ديننا وعقيدتنا، فلا بد من القضاء عليه، وأبرز قضية هي: أن نقضي على الرمز وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، فعندما ذهب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى يهود بني النضير ليستعين بهم في دية قتيل معينة باعتبار المعاهدة، فعندما جلس مستنداً عليه السلام إلى أصل حصن من حصونهم قام عمرو بن جحاش بن غريب! وصعد إلى أعلى الحصن ليرمي على رسول الله حجر الرحى لعله يشق رأسه فيموت.
فجاءه الوحي فخرج وعرف الخيانة وقضى على هؤلاء، لكنهم لم يأخذوا الدرس ولا العبرة، فقام رجل آخر: وهو لبيد بن الأعصم بعمل سحر للرسول صلى الله عليه وسلم، فسحره حتى إنه يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله، وقد استمر شهراً كاملاً بهذه الطريقة.
وهذا الرسول هو أفضل البشر، ويوحى إليه من الله، لكن لا يعلم من سحره، ويخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله، وكان هذا التنفير سينجح لو كان المؤمنون أصحاب قاعدة هشة، لكن المصطفى عليه السلام كان يربي ويقوي القاعدة، ولم يكن يبذر البذرة ويدعها تخرج وينتهي الأمر، بل بذر وسقى وجعلهم يترعرعون حتى صلب عودهم فتحدوا كل شيء يأتيهم، ولذلك كانت قاعدة صلبة لم تتأثر، وأفشل الله خطة اليهود، لكن هل سكتوا؟ قامت زينب بنت الحارث الخيبرية بوضع السم في شاة أكل الرسول منها ومعه بشر بن البراء بن معرور رضي الله تعالى عنه، فمات بعد أن ازدرد اللقمة، أما الرسول عليه السلام فعلم وأخرجها من فمه، وقيل: إنه مات منها، فكان نبياً شهيداً صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لم تنجح هذه الطريقة فماذا نفعل؟ قالوا: لننتقل إلى طريقة أخرى، وفعلاً انتقلوا إلى طريقة أخرى، والطريقة الأخرى: هي أن ننشئ طابوراً إضافياً خاصاً داخلياً مستوراً يبث الفرقة بين المسلمين، فأنشئوا المنافقين؛ ولذلك تجد غالب المنافقين لهم ارتباط باليهود بأي صورة وبأي كيفية وفي أي زمان وفي أي مكان.
والمنافقون في هذا الزمان (الطابور الخامس) مرتبطون باليهود، ولذلك لو رأيت أحد الصحفيين الذين يكيدون للإسلام والمسلمين فارجع إلى تاريخه فستجد أنه تتلمذ على اليهود مباشرة أو كتابة أو غير ذلك، ولكن هذا الطابور لم ينجح؛ لأن الوحي ينزل ويحذر، وتأتي الآيات المتتابعة التي تفضح هؤلاء واحداً تلو الآخر، فهذا يقول: ائذن لي ولا تفتني، إذاً: هو الرجل فلان! وهؤلاء أنشئوا مسجد الضرار، وهم فلان وفلان وفلان! وهذا يقول: لا تنفروا في الحر، إذاً: هذا فلان! ففضحهم الله واحداً بعد الآخر، وفي نهاية المطاف تساقطوا ولم ينجح هذا المنهج.
إذاً: ننتهج منهجاً ثالثاً: وهو الحرب الجماعية؛ فنحن أقوياء متمرسون على القتال، ولدينا عتاد وأفراد وسلاح، فلنرفعها في وجه هذه القلة القليلة، فحاربت بنو النضير وبنو قينقاع وبنو قريظة ويهود خيبر وفشلوا وتحطموا جميعاً واحداً تلو الآخر.
إذاً: لم تنجح الحرب الجماعية فانتقلوا إلى منهج آخر: فقد مات الرسول عليه الصلاة والسلام والأمة قوية ومسيطرة ومتمكنة وتمتد بسرعة فأخذوا يساهمون في اغتيال من ينوب عن هذا الإمام: كـ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، فـ عمر بن الخطاب قتل على يد أبي لؤلؤة المجوسي ومعه جماعة، تقول بعض كتب التاريخ: إن لليهود في ذلك دوراً غير مباشر، فقد كانوا هم الذين استقدموا أبا لؤلؤة المجوسي وباعوه للمغيرة بن شعبة، ويقولون: إن الهرمزان كان مدعوماً كذلك من قبل اليهود، ويقولون: إن الخنجر المسموم ذا الرأسين سمه اليهود منذ فترة طويلة الزمن.
إذاً: فقد ساهموا في هذا كما ساهموا أيضاً في اغتيال عثمان عن طريق عبد الله بن سبأ كما سنعرف بعد قليل، وساهموا في أشياء كثيرة، والقضية أنهم ساهموا في اغتيال الزعامات المشهورة.
لكن هذا المنهج لم ينجح؛ لأن الرجل من هؤلاء إذا سقط قام بدلاً عنه شخص آخر له نفس الإمكانيات أو أقل قليلاً، فلم ينجح هذا المنهج، فحاولوا بمنهج آخر: تذكية الفتنة بين المسلمين، فلما قتل عثمان وتولى علي قامت الفتنة فقام أهل الخير من الصحابة وغيرهم للم الشمل وللقضاء على مصدر الفتنة؛ وقامت عائشة تطالب بدم عثمان، وكان هناك اختلاف في وجهات النظر.
وكادت أن ترجع المياه إلى مجاريها، لكن اليهود ساهموا في إيقاظها من جديد؛ ولذلك تروي كتب التاريخ: أن وفود صلح التقت من جيشي علي وعائشة لفض الخلاف، وليرجع كل جيش إلى مكانه، فعندما رأى اليهود أن هذا الصلح يكاد أن يتم التقوا ليلاً واتفقوا فيما بينهم على أن يقوموا بالحرب مباشرة هذا من هنا وهذا من هنا، وفعلاً بدءوها وتوقع كل فريق من الصحابة أن الخيانة صدرت من الجيش المقابل، فقامت المعركة المريعة المخيفة الهائلة التي ذهب ضحيتها عشرة آلاف من ا