[قصة رجل صالح أصيب بحادث في سيارته مع امرأته وأولاده]
وهذا يقودني حقيقة إلى ذكر قصة وموقف أريد أن أقرأه عليكم نصاً، وأن أعرضها كما وردت وكما جاءت والعهدة على راويها.
يقول: سافرت إلى مدينة جدة في مهمة رسمية، وفي الطريق فوجئت بحادث سيارة يبدو أنه وقع للتو كنت أول من وصل إليه، أوقفت سيارتي، واندفعت مسرعاً إلى السيارة المصطدمة، تحسستها في حذر، ونظرت إلى داخلها وحدقت النظر، وخفقات قلبي تنبض بشدة، وارتعشت يداي، وتسمرت قدماي، وخنقتني العبرة، إذ ترقرقت عيناي بالدموع ثم أجهشت بالبكاء.
إنه منظر عجيب وصورة تبعث الشجن، وتثير البكاء، كان قائد السيارة ملقىً على مقودها جثة هامدة، وقد شخص بصره إلى السماء رافعاً سبابته، وفي ثغره ابتسامة جميلة، ووجهه تحيط بها لحية كثيفة، يقول: كأنه الشمس في ضحاها، والبدر في سناه، والعجيب أن طفلته الصغيرة كانت ملقاة على ظهره، محيطة بيديها على عنقه، وقد لفظت أنفاسها وودعت حياتها.
يقول: لم أر ميتة كمثل هذه الميتة، طهر وسكينة ووقار، هذا المتوفى قد أشرقت شمس الاستقامة على محياه ظاهرة بينة بارزة، يقول: منظر سبابته التي ماتت توحد الله سبحانه وتعالى، وجمال ابتسامته التي فارق بها الحياة حلقت بي بعيداً وبعيداً، تفكرت في هذه الخاتمة الحسنة، وازدحمت الأفكار في رأسي، وسؤال يتردد صداه في أعماقي ويطرق بشدة: كيف سيكون رحيلي؟ وعلى أي حال ستكون خاتمتي؟ يقول وهو متأثر يعيش المأساة في هذه اللحظات الحرجة فيمزق حجب الغفلة، وتنهمر دموع الخشية، ويعلو صوت النحيب: من رآني هناك ظن أني أعرف الرجل، أو أن لي به قرابة، كنت أبكي بكاء الثكلى، لم أكن أشعر بمن حولي، وفجأة انساب صوتها، وصوتها يحمل برودة اليقين، هذا الصوت لامس سمعي وردني إلى شعوري، تنادي: يا أخي! لا تبك عليه، إنه رجل صالح، إنه رجل صالح، إنه رجل صالح، صارت تردد في مسامعي، لم تقل هذه المرأة: هيا، أخرجنا وبسرعة من هذا المكان جزاك الله خيراً! يقول: التفت إليها لم أرها، إنها امرأة تقبع في المقعد الخلفي من السيارة، وتضم إلى صدرها طفلين صغيرين جميلين لم يمسا بسوء ولم يصابا بأذى، كانت شامخة في حجابها شموخ الجبال، هادئة في مصاف مصابها هدوء النسيم، لا بكاء، لا صياح، لا زئير، لا عويل، أخرجتها ومن معي من السيارة، يقول هذا الرجل: من رآني ورآها ظن أني صاحب المصيبة دونها، من شدة بكائي وتأثري، يقول: قالت لنا وهي تتفقد حجابها، وتستكمل حشمتها في ثبات الراضي بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره: لو سمحتم احملوا زوجي وطفلتي إلى أقرب مستشفى، وسارعوا في إجراءات نقله إلى المستشفى، ثم احملوني وطفلي إلى منزلي جزاكم الله خيراً.
بادر بعض المحسنين إلى حمل الرجل والطفلة إلى أقرب مستشفى، وحاولنا أن نحمل المرأة معنا في هذه الصحراء المقفرة إلى مكانها، ولكن المرأة رفضت وردت علينا بثبات وقالت: لن أركب مع رجل أعزب، لن أركب معكم ولو مت في مكاني هذا، تقول: لا أركب إلا في سيارة فيها نساء.
يقول: ثم انزوت عنا جانباً، ممسكة بطفليها الصغيرين ريثما نجد بغيتها، وتحققت منيتها، إذ استجبنا لرغبتها وأكبرنا هذا الموقف منها، ومر وقت طويل ونحن ننتظر على تلك الحالة العصيبة وفي تلك الأرض الخلاء ساعتين كاملتين حتى مرت بنا سيارة فيها رجل ومعه أسرته، فأوقفناه وأخبرناه خبر هذه المرأة، وسألناه أن يحملها إلى منزلها فلم يمانع.
عدت إلى سيارتي وأنا أعجب من هذا الثبات العظيم: ثبات الرجل على دينه واستقامته، والرجل على خلقه في آخر لحظات حياته وأول طريق آخرته، ثم العجب الآخر من ثبات هذه المرأة على حجابها وعفافها وصبرها، وثباتها على ما لم يصدر منها تأثراً بما حصل لزوجها وابنتها في لحظة من أصعب المواقف وأحلك الساعات، التي ربما ينهار عندها الرجال، إنه الإيمان، نعم أيها الأحبة! إنه الإيمان الذي قال الله سبحانه وتعالى فيه:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}[إبراهيم:٢٧].