للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[من منهج السلف في تلقي العقيدة عدم الخوض في علم الكلام والفلسفة]

أما النقطة الثانية فهي من النقاط المهمة كذلك، وهي: عدم الخوض في علم الكلام والفلسفة والاقتصار في بيان العقيدة على القرآن والسنة، وهذه كأنها مشتقة من الأولى، لكن فيها تركيز على جانب مهم، وهو علم الكلام والفلسفة.

جاء مجموعة من الناس إلى الخليفة العباسي المشهور المعروف بـ المأمون الخليفة السابع من خلفاء بني العباس، وهو من أشهر خلفاء بني العباس وأقواهم، وكان رجلاً مشهوراً بالحلم والفضل وغير ذلك، لكنه سود عصره بتقريب المعتزلة وابتلاء أهل الحق من أهل السنة.

هذا الرجل - أي: الخليفة المأمون - احتوته المعتزلة وأثروا عليه؛ فجعلوه معتزلياً مثلهم، ثم طلبوا منه أن يأتي بكتب الفلاسفة القدماء من يونان أو رومان أو فرس أو روم أو هنود أو غيرهم، وفعلاً بدأ يرسل الرسل والمراسلات إلى أصحاب هذه الدول؛ فتقدم الكتب تباعاً.

كان من ضمن هذه المراسلات رسالة موجهة إلى ملك صقلية جورج الأول، فتلقى الرسالة من خليفة المسلمين يطلب فيها نسخاً من كتب موجودة في الخزانة الخاصة بمكتبة كذا وكذا في هذه البلدة أو في هذه الدولة.

فجمع هذا الملك أعيان الدولة وعرض عليهم الأمر؛ فكلهم رفض، قالوا: لا، نحن في حرب مع المسلمين ولا يليق أن ترسل لهم الكتب أو تنسخ لهم الكتب، إلا واحداً من هؤلاء وكان من علمائهم، فقال: بل أرسل له هذه الكتب وأعطه إياها، فوالله ما دخلت هذه الكتب على قوم إلا فرقت دينهم أحزاباً وشيعاً.

فيبدو أن هذا الملك انصاع لرأي هذا الكاهن أو هذا العالم فأخذ هذه الكتب ونسخها، وكانت مكتوبة باللغة اليونانية القديمة.

جاءت هذه الكتب إلى المأمون باللغة اللاتينية فما الحل؟ الحل أن يبحث عن أناس يترجمونها، فما وجد أناساً يجيدون اللغة اللاتينية إلا اليهود، واليهود لأنهم يقرءون التوراة باللاتينية فإن بعض فرق اليهود تحرم أن تترجم التوراة للغات أخرى، فكانوا يقرءونها باللاتينية.

فجمع هؤلاء اليهود وعرض عليهم الأمر، فأبدوا استعدادهم للترجمة، ثم بدءوا يكتبون ويكتبون، فوجدوا أن هذه الكتب فيها بغيتهم؛ لأن فيها إفساد لعقائد المسلمين، وفيها تحزيب وتفريق لهم، فبدءوا يكتبونها بسرعة، ثم أعطوها للمأمون بعد أن نسخوا نسخاً منها لهم خاصة.

ثم تقول الروايات: إنهم بدءوا يكتبونها ويعطونها للوراقين بعد الترجمة بأسعار رخيصة، حتى ذكرت الرواية أن الكتاب ذات المائة صفحة كان يباع بعشرة دنانير، ومن كتب الفلاسفة ذات المائة صفحة يبيعونها بدينار يعني: المجلد من كتب أهل الإسلام بعشرة دنانير، والمجلد من كتب هؤلاء بدينار، وأنا شخص لا أعرف، أحب القراءة، فأدخل في مكتب الوراق وأجد أن هذا بدينار، وهذا بعشرة، آخذ ما كان سعره بدينار، فظهرت هذه الكتب وبدءوا يقرءونها ويتأثرون بما فيها، ثم ظهرت الآراء العقدية المختلفة؛ لأنهم لم ينهجوا منهج السلف في عدم الخوض في علم الكلام والفلسفة؛ ولذلك كان السلف يؤكدون على أن علماء الكلام ليسوا من العلماء، ويقولون: لو أوصى بماله لعلماء بلده لم يدخل في ذلك علماء الكلام.

ويقولون عن أحد السلف: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في الأسواق ويقال: هذا جزاء من ترك القرآن والسنة وأقبل على علم الكلام.

ما هو علم الكلام؟ هو دراسة المسائل العقدية بمنأى ومعزل عن الكتاب والسنة، يعني: يدرسونها بالأشياء العقلية، وبالاجتهادات والآراء، فيقولون مثلاً: اسم الله سبحانه وتعالى، نأتي بمعناه من عندنا، ونأتي بصفة من صفات الله من عندنا، ومن صفات الله كذا وكذا، فيضيفون صفات لله ليست موجودة في القرآن ولا في السنة، وهكذا، فإخضاع مسائل العقيدة للجوانب العقلية هذا نهى عنه السلف نهياً كلياً.

<<  <  ج: ص:  >  >>