[تحريف اليهود للتوراة]
انتهى التيه ودخلوا أرض فلسطين، وعندما دخلوها وجدوا رزقاً لم يكونوا يحلمون به، ونعيماً لم يكونوا يتصورونه، وملكاً في أيديهم يتصرفون فيه كيفما شاءوا.
خرجوا من فقر وذلة ومهانة، وشظف عيش فوجدوا كل شيء تحت أيديهم، ولكنهم وجدوا التوراة أمامهم تقول لهم: لا تسرقوا، وتقول لهم: لا تخونوا، وتقول لهم: خذوا كل شيء بحقه، ولا تأخذوا أموال الناس بالباطل وغير ذلك من الأوامر والنواهي فيما يتعلق بجمع المال، لكنهم يريدون جمع المال بأي صورة وبأسرع وقت، فماذا يصنعون يا ترى؟ هل يطيعون التوراة التي هي أوامر من الله؟ أم يغفلون النظر عنها ويجمعون المال حتى يكونوا أغنياء بأقصى سرعة؟ تأرجحت لديهم هذه المسألة وتلك، فكانت النتيجة أن قر قرارهم على رد نصوص التوراة، فجاءوا إلى نصوص التوراة التي تحرم عليهم السرقة والاغتصاب، والأخذ بغير حق إلى آخره فحذفوها من التوراة، فكان المظلوم إذا جاء إليهم يقول: هذا حرام عليكم، قالوا: من أين علمت أن هذا الأمر حرام؟ فإن التوراة لا تحرم ذلك، أثبت لنا نصاً من التوراة يُحرّم أن أخذ المال من فلان أو فلان حرام.
هذا الأمر تحدث عنه بعض علماء الملل والنحل، عندما تحدثوا عن أسباب تحريف اليهود للتوراة، ومعلوم أن اليهود والنصارى أوكل الله سبحانه وتعالى لهم حفظ كتبهم، فلم يراعوا الأمانة فحرفوا وبدلوا.
أما القرآن فإن الله تكفّل بحفظه، كما قال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩] ولذلك تعرّض القرآن الكريم لهجمات من التحريف والتأويل والتغيير أضعاف ما تعرض له الإنجيل وقبله التوراة، ومع ذلك بقي كما أنزل لم يُغير منه حرف واحد، بل ولا حتى علامة إعرابية؛ لأن الله تكفّل بحفظه.
فأقول هذه النظرية تقول: بأن هؤلاء الذين ظُلموا صاروا يأتون من ظلمهم ويذكرونهم بأحوال الأنبياء وما كانوا عليه من طهر، وأنفة، وعزة، وخلق، ودين، وتقى، وورع، فغاظ هؤلاء الذين يجمعون المال من غير حله أن يسمعوا هذه السير، فذهبوا إلى سير هؤلاء الأنبياء وحرّفوها وغيّروها فذاك نبي زان! بل وزان ببناته! وذاك نبي يسرق! وذاك نبي يقتل! وذاك نبي يعبد الأصنام! وذاك نبي يعتدي على العرض! وذاك نبي يفعل ويفعل! ولم يبقوا نبياً إلا ووصفوه بأوصاف يتنزه عنها كثير من البشر، فصار المظلوم لا يجد مجالاً للتذكير بالأنبياء؛ لأنهم إذا ذُكِّروا بالأنبياء قالوا: أي أنبياء؟ هؤلاء أردى منا! نحن نأخذ مبلغ كذا وكذا والأنبياء انظروا ماذا يفعلون.
بل ويقولون: انظروا إلى لوط كيف زنا ببناته! ففي التوراة نص أن لوطاً زنا ببناته! هذا مذكور عندهم بشكل صريح، بل ورزق بأبناء من هؤلاء البنات! لكن لم يسكت هؤلاء المظلومون على مر الزمن وتوالي العصور، بل جاءوا يخاطبون الذين ظلموهم: إن هناك آخرة، وهناك جنة، وهناك ناراً، وهناك حساباً، وهناك عقاباً، وهناك أعمالاً توزن، وهناك صحفاً تتطاير، وهناك أهوالاً يوم القيامة، وهناك عذاب قبر، وهناك سوء خاتمة، فأخذ هؤلاء التوراة وحذفوا منها كل ما يمت إلى الآخرة بصلة، ولذلك تجد التوراة عندما تقرأها من أولها إلى آخرها لا تجد فيها نصاً يتحدث عن جنة أو عن نار أو عن آخرة أو عن عذاب أو حساب أبداً؛ لأنها حذفت، وحُرِّفت وغُيِّرت وبُدِّلت.
فلم يسكت هؤلاء المظلومون بل صاروا يأتون هؤلاء الظلمة ويذكرونهم بالله، ويخوفونهم من عقابه، فلم يسكت هؤلاء بل ذهبوا إلى صفات الله في التوراة وأرادوا حذفها، ولكنها كثيرة ومتعددة ولا يمكن أن تُحذف، فحرَّفوها وغيروها وبدلوها، فوصفوا الله سبحانه وتعالى في التوراة بأوصاف يتنزه أخس الناس عنها.
والله سبحانه وتعالى ذكر لنا شيئاً من ذلك عندما قال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:٦٤] وقال: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران:١٨١] وذكروا أوصافاً منها: أنه حزن على إغراق قوم نوح، وأنه ندم وبكى على إغراقهم، حتى رمدت عيناه.
وأنه تعب أثناء الخلق، وارتاح واضعاً قدماً على قدم وذكروا كلمات يقشعر الجلد من سماعها، لكنها موجودة في التوراة.
فعاش اليهود هذه الفترة بهذه الكيفية يجمعون المال بأي صورة وبأي كيفية.
هذه هي الوقفة الأساسية في هذه المقدمة.