[قصة امرأة بارة بأبيها]
أما الموقف الثالث أيها الأحبة: فهو موقف غريب لا يصدق، لولا أنني عشت بعض أحداثه.
في أحد الأيام قبل فترة -ربما أقول: لا تتجاوز ستة أشهر- اتصلت امرأة -وهذه قضية حقيقية أي: قضية الاتصال من النساء أحياناً؛ لأنهن لا يجدن من يقف بجوارهن- اتصلت وهي تبكي وتقول: إنني أعيش قضية، أريد منك أن تعينني أو تساعدني على حلها، ما هي؟ تقول: نحن نعيش في مدينة مجاورة للرياض، لن أذكر الأسماء، تقول: أنا متزوجة ولي مجموعة أبناء وبنات، ولي أخت متزوجة كذلك، والدي كبير في السن يعيش في هذه المدينة، وأمي كذلك، ولي أخوان اثنان، الأول يعمل في منطقة نائية بعيدة عن الرياض، والثاني لا يعمل، وللأسف الشديد هو منحرف، تقول: حالتنا المادية ضعيفة، ووصلت الحالة في مرة من المرات بوالدي إلى أن استدان أو اقترض سيارة من أحد الأشخاص، ووعده أن يعطيه المبلغ في وقت معين، تقول: حان الوقت المحدد، ولم نجد مجالاً لمعاونة والدنا إلا بالتضحية، فأخذت ما لدي من ذهب وما لدى بناتي من ذهب، وأنا أعمل معلمة -طبعاً كان اتصالها وقت الظهيرة- يعني: مثل ظهر اليوم، تقول: وأنا أحدد الوقت؛ لأن له أهمية، تقول: وجمعنا المال وأخذنا ما عند أختي كذلك، واستدنت بعض المال من بعض المعلمات وشيئاً فشيئاً إلى أن اجتمع المبلغ، وكان مقداره واحداً وأربعين ألفاً، هذا المبلغ الذي ذكرته، تقول: فرحت فرحاً شديداً بتحصيل هذا المبلغ؛ لأنني أعلم فرح والدي به، وكان والدي قد أصيب قبل فترة بجلطة، فنجاه الله منها.
تقول: أخذت المبلغ وأعطيته لوالدي فشكرني شكراًً عجيباً عظيماً، وشكر أختي كذلك، وأخذ المبلغ ووضعه في دالوب الغرفة، ثم نام مطمئناً بعد أن اتصل بصاحب الدين وقال: أبشرك أن المبلغ موجود وحاضر، وعليك أن تأتي إلي إن شاء الله غداً في المساء، تتعشى عندي أنت وبعض الأشخاص.
تقول: ذهب أبي واشترى خروفاً يريد أن يعمل وليمة من الغد في الليل لهذا الرجل، تقول: ونمت وأنا قريرة العين، وعند الساعة الواحدة في الليل -التي هي البارحة، طبعاً هي تتصل ظهراً- تقول: البارحة الساعة الواحدة اتصلت بي أمي وهي تبكي، وتقول: إن المبلغ قد سرق، ولو علم والدك بما حصل لمات من الفاجعة، ماذا ترين؟ كيف؟ وإذا بالابن الفاسد قد علم بالمبلغ فسطا عليه وأخذه وأعد عدته وجهز شنطته وأخذ ملابسه وسافر بالمبلغ، تقول هذه الأم: لم أجد في غرفة أخيك شيئاً من ثيابه ولا ملابسه، أخذها وذهب، فلا بد من عمل شيء، تقول: لم أستطع الذهاب إلى المدرسة هذا اليوم، وبدأت أفكر في الوضع، تقول: بدأت أتحدث مع أختي ومع زوجي، ومع زميلاتي، وقررنا أن نجمع شيئاً من هذا المبلغ، وفعلاً بدأنا نجمع ونجمع إلى أن استطعنا أن نجمع شيئاً يسيراً من هذا المبلغ، فلم نستطع أن نجمع إلا سبعة عشر ألف ريال، إذاً: بقي أربعة وعشرون ألفاً.
تقول: في الساعة الثامنة -يعني: قبيل أذان العشاء أو مع أذان العشاء- توفر لدي سبعة عشر ألف ريال، طبعاً هذه المرأة تقول: طبعاً بعد أن جمعنا هذا المبلغ سبعة عشر ألف ذهبنا بالمبلغ وأعطيناه أمي ولم نخبر والدي، طبعاً جاء الرجل ومعه الضيوف -وطبعاً هذه المكالمة جاءت على شقين: جزء منها أنا شاركت فيه، وجزء آخر أهل البيت -تقول: فجاء الضيوف وجاء الرجل -يعني: أكرمهم أبوها- ثم جاء إلى زوجته وقال: أعطيني المبلغ، لم تستطع الزوجة أن تخبره بشيء، وقالت للبنت: أخبريه أنت، فقالت البنت لوالدها: يا أبي! المبلغ موجود -وطبعاً كان هذا نوع من الخطة أو من المنهج، أنا أعطيتها هذه الفكرة حقيقة ولو أنها كذبة لكنها تخفف من الواقعة- فقالت: المبلغ موجود، ولكنني خفت عليه فأودعته البنك وأبقيت منه سبعة عشر ألفاً، أربعة وعشرون ألفاً موجودة في البنك، وسبعة عشر ألفاً موجودة الآن.
تقول: عندما سمع أبي هذا الكلام شق ثوبه -كعادة أهل البادية- تقول: شق ثوبه إلى آخره، تقول: ولو أخبرته أن المبلغ سرق عن بكرة أبيه ماذا سيكون حاله؟ تقول: صار يبكي كالثكلى، وشق ثيابه ثم هونت عليه وقلت: المبلغ موجود وسآتي به غداً، الآن الوقت ليل، وليس هناك أحد يعمل، وليس هناك بنك مفتوح، غداً إن شاء الله سيتيسر الأمر، فاعتذر من ضيفك، وأعطه السبعة عشر ألفاً، وإن شاء الله سيكون المبلغ متيسراً.
تقول: أخذ المبلغ واعتذر من صاحبه، وقال: إنه موجود، وإن شاء الله غداً يكون لديك، تقول البنت: من الآن إلى الغد هناك حل.
تقول: عندما جاء الليل ذهبت إلى منزلي في طرف من أطراف الرياض -طبعاً تقول: ذاك اليوم: ما درست كذلك -وعندما جاء العصر حاولت أن أستخدم كل إمكاناتي لتجميع المبلغ فما استطعت، كل ما جمعت: مائة، مائتين، خمسين فقط.
تقول: وجاء العصر فإذا بوالدي يطرق الباب، قلت: إلى أين؟ قال: إلى البنك، تقول: لبست عباءتي وذهبت إلى البنك، دخلت قسم النساء وجلست، ماذا أصنع؟ لا شيء إلا أن آخذ تلفون البنك وأتصل، أبحث عن حلول فما استطعت، فخرجت في آخر الدوام إلى والدي وقلت: والله يا أبي! ما استطعت أصرف، قال: لماذا؟ قلت: زحمة، تقول: والبنك ليس فيه أحد أصلاً إلا القليل، النساء يدخلن ويخرجن وأنا أقول لوالدي: زحمة، وأبي كبير في السن لا يعرف واقع البنوك، قال: سنأتي غداً، تقول: فذهبت اليوم التالي إلى البنك ثم اليوم الثالث واليوم الرابع تقول: أربعة أيام وأنا أجلس في البنك من بدء فتح أبوابه إلى أن يغلق أبوابه.
تقول: وفي اليوم الثالث صرت أبكي؛ لأنني لم أجد حلاً، وأنا أحب أبي، وأخاف عليه، لكنني لا أستطيع أن أحضر المبلغ، هو مبلغ بسيط، ولكننا أناس على قدرنا لا نستطيع أن نحضر هذا المبلغ.
تقول: وفي اليوم الرابع بلغ مني الأمر مبلغه، تمنيت أن تبتلعني الأرض، تمنيت أن أموت، وتمنيت كل شيء إلا البقاء على ظهر الأرض، لأني لا أريد لأبي أن يموت أمام ناظري، تقول: وأنا جالسة وإذا بامرأة تدخل البنك، وتجلس بجانبي تنتظر دورها في تسديد مبلغ من المال، تقول: فعندما جاء دورها ذهبت، ومعها كيس فيه نقود، تقول: بعد قليل رجعت وجلست بجانبي، ثم ذهبت للتسديد ورجعت، وأثناء جلوسها بجانبي كانت تسمع بكائي، لم أستطع أن أصبر، كنت أبكي وأضغط على نفسي، ولكن صوت البكاء وحشرجته كان يظهر علي، تقول: حنت علي، وقالت: بالله عليك أخبريني، قلت: لا والله ليس هناك شيء، قالت: والله إلا أخبرتيني، تقول: وأيمان مغلظة مني ومنها، وفي النهاية أخبرتها بكل القصة، فقالت المرأة: الله أكبر، الله أكبر، الذي معي في الكيس أربعة وعشرون ألفاً خذيها، قالت: لا والله لا آخذها أنا لا أعرفك، قالت: والله إلا تأخذينها، على أنه دين مفتوح السداد، أنت ذكرت لي أنك معلمة في المدرسة الفلانية، وأنا أعرف هذه المدرسة، فإذا تيسرت أمورك سددي، لكن على المدى الطويل.
تقول: أخذت المبلغ وقبل آن آخذ المبلغ قالت لي: اسمعي، أنت قصتك عجيبة، لكن قصتي أنا أعجب، تقول هذه المرأة صاحبة المال: منذ أربعة أيام وزوجي يصر علي أن آخذ المبلغ وأودعه في البنك، وأنا أقول: لا، زوجي يصر وأنا أرفض، تقول: وفي هذا اليوم قلت لزوجي: أريد أن أودع الأربعة والعشرين ألفاً في البنك، فقال لي زوجي: لا أستطيع فإني مشغول، قلت: لا بد أن أودعها في البنك، قال: يا امرأة! أنا مشغول لا أستطيع عندي موعد فليكن غداً، قلت: لا، بل اليوم، تقول: كأن هناك دافعاً قوياً يدفعني إلى أن آخذ المبلغ وأذهب به إلى البنك، تقول: وتخاصمت أنا وزوجي، وقلت: إذا لم تذهب بي إلى البنك ذهبت في سيارة أجرة، قال: اذهبي، تقول: والله إنها المرة الأولى التي أركب فيها سيارة أجرة في حياتي، فذهبت إلى البنك وعندما جلست بجانبك سمعت البكاء ولم ألق له بالاً، وكأنه أمر عادي بالنسبة لي، وعندما ذهبت لأودع المال قالت المرأة التي تستلم المبالغ: كم لديك؟ قلت: أربعة وعشرون ألفاً، كتبتها في ورقة وأعطيتها، ثم سحبتها، أحس أن يدي تنسحب وأنها لا تتقدم، فقررت أن أرجع وأستريح قليلاً فاسترحت، ثم ذهبت لأودعه مرة أخرى، ثم رجعت مرة ثانية، كأن هناك مانعاً يمنعني من أن أودع المبلغ، والله إني لأرى هذا خيراً ساقه الله إليك.
تقول هذه المرأة: أخذت المبلغ وأنا أبكي بكاء يسمعه كل من في البنك وخرجت -طبعاً هذه المكالمة الأخيرة من المرأة لأهل البيت تخبر المرأة بما حصل، وتحمد الله على ذلك- تقول: فذهبت به إلى والدي وكاد يموت من الفرح، جاء المال ولا يدري كيف جاء، المال سحب من البنك، ولكنه لا يدري كيف سحب.
فانظروا إلى هذه المرأة كيف برت بوالدها، وانظروا عندما برت بوالدها كيف ساق الله لها أموراً خيالية وغير متصورة، وكيف ساق الله لها أشياءً غير متوقعة: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:٢ - ٣].