(٢) ضرب في هذا الحديث مثلين: أحدهما للمفرط في جمع الدنيا والمنع من حقها، والآخر للمقتصد في أخذها والنفع بها، فقوله: "إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يُلم" فإنه مثل للمفرط الذي يأخذ الدنيا بغير حقها، وذلك أن الربيع ينبت أحرار اليقول فتستكثر الماشية منه لاستطابتها إياه، حتى تنتفخ بطونها عند مجاوزتها حد الاحتمال، فتنشق أمعاؤها من ذلك فتهلك أو تقارب الهلاك، وكذلك الذي يجمع الدنيا من غير حلها ويمنعها مُستحِقَّها قد تعرض للهلاك في الآخرة بدخول النار وفي الدنيا بأذى الناس له وحسدهم إياه، وغير ذلك من أنواع الأذى، وأما قوله: "إلا آكلة الخضر" فإنه مثل للمقتصد، وذلك أن الخضر ليس من أحرار البقول وجيدها التي ينبتها الربيع بتوالي أمطاره فتحسُن وتنعُم، ولكنه من البقول التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول ويُبسها حيث لا تجد سواه، وتُسميها العرب الجَنبة، فلا ترى الماشية تكثر من أكلها ولا تستمرئها، فضرب آكلة الخضر من المواشي مثلاً لمن يقتصد في أخذ الدنيا وجمعها، ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها، فهو بنجوة من وبالها، كما نجت آكلة الخضر، ألا تراه قال: "أكلت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت" أراد أنها إذا شبعت منها بركت مستقبلة عين الشمس تستمرئ بذلك ما أكلت، وتجترُّ وتثلط، فإذا ثلطت فقد زال عنها الحَبَط، وإنما تحبط الماشية لأنها تمتلئ بطونها ولا تثلط ولا تبول فتنتفخ أجوافها، فيعرض لها المرض فتهلك، وأراد بزهرة الدنيا حسنها وبهجتها، وببركات الأرض نماءها وما يخرج من نباتها. النهاية (٢/ ٤٠). (٣) صحيح البخاري (٣/ ٣٨٣ - ٣٨٤ رقم ١٤٦٥). (٤) صحيح مسلم (٢/ ٧٢٨ - ٧٢٩ رقم ١٠٥٢). (٥) صحيح مسلم (٢/ ٧٣٠ رقم ١٠